بساتين من نور وبنفسج.. الطفلة العُمانية تنسج أحلامها في معرض الكتاب بمسقط

فاطمة ابوناجي / مسقط –
في ممرات فسيحة تشبه دروب الحكايا وخطوات فتية تحمل ملامح الغد، استقبل معرض مسقط الدولي للكتاب 2025، يوم الثلاثاء ال 29 من أبريل، زوّاره الصغار من مختلف ولايات سلطنة عمان، من الشمال حتى الجنوب، في مشهد يفيض بالبهجة والمعنى ويترجم عمق الرؤية الثقافية نحو تربية جيل قارئ شغوف بالمعرفة.
يوم مختلف خُصص للطالبات، بعد تخصيص يوم سابق للطلاب الذكور، كان لوحة نابضة بالحياة. أزياء مدرسية موحدة تزيّن المكان، لكن لكل طفلة فرادتها تنضح من عينيها المشتعلتين بالفضول. واحدة تمسك كتابًا وكأنها عثرت على كنز، وأخرى تحمل قائمة بحث صغيرة، تتنقل بين الأروقة بحثًا عن عناوين لطالما حلمت بقراءتها. وثالثة سألتها بابتسامة: ماذا اشتريتِ؟ فأجابت وهي تمسك بدفتر مذكرات مزخرف بالقلوب والمفاتيح: سأكتب فيه ما يعجبني… كل ما يعجبني.
وعلى أرض المعرض، جلست مجموعة من الفتيات بهدوء طفولي ناعم يتناولن طعامهن في وضعيات مريحة، بلا تكلف أو صخب، وكأن المعرض بيتهن الثاني.
وفي الزوايا الأخرى حملت فتيات صغيرات بالونات بنفسجية، تتماوج في الهواء كأحلامٍ صاعدة، بينما امتدت أياديهن الأخرى بأكياس ممتلئة بالكتب. مشهد يشبه بستانًا من البنفسج أو الخزامى، لا تزهر فيه الأزهار بل العقول.
ومن أكثر ما أدهشني، بصفتي صحفية، وأنا أتجول في أروقة المعرض، مشهدٌ عالق في الذاكرة: فتاة لم يتجاوز عمرها السادسة عشرة، تقف في قلب دائرة من زميلاتها قرب جناح الدار التونسية مسكلياني، تحكي بصوتٍ واثق أحداث رواية “تغريبة القافر” للكاتب زهران القاسمي، كأنها تستدعي تفاصيلها من قلب التجربة لا من صفحات الورق. اقتربتُ، ومعي مرافقتي أسماء من وزارة الإعلام، لننصت أيضًا. كانت الكلمات تخرج منها بثقة العارف، ونبرة العاشقة للأدب، حتى خُيّل إلينا أننا نسمع الكاتب نفسه يروي. وحين فرغت من حديثها، بادرتُها بسؤال، لأكتشف أن هذه الفتاة قرأت جميع أعمال القاسمي، وتواظب على قراءة الأدب العماني والعربي بشغف نادر. في تلك اللحظة، أدركت أن المعرض لا يقدّم الكتب فحسب، بل يكشف لنا جيلاً يكتب مستقبله بعينين مفتوحتين على العالم، وبقلب مملوء بالحبر.
تلك مشاهد من بين أخرى تؤكد أن الاهتمام بالطفلة والفتاة في هذا الحدث الثقافي لم يكن تفصيلا ثانويا، بل كان في صلب المشهد. كل ركن وُجِّه بعناية ليمنحهن مساحة للاختيار وللتأمل ولصوغ هوياتهن من خلال الحرف والصورة والفكرة. إنه استثمار طويل الأمد في من سيكملن بناء الوطن بفكر ناضج وأحلام لا تُحد.
وفي مشهد جامع كهذا تقف الفتاة العُمانية الصغيرة لا كمجرد زائرة لمعرض، بل كنموذج يُحتذى به يشع من حضورها وعيٌ مبكر بقيمة المعرفة وشغف لا يتصنّع بالكتاب بوصفه بوابة لفهم الذات والعالم. هي لا تقرأ لتتسلّى بل لتبني، لا لتنسى بل لتتذكّر جذورها وتستدعي صوت الهُوية في زمنٍ تتكاثر فيه الضوضاء. في وقفتها وفي كلماتها وفي حقيبتها المليئة بالكتب تتجلّى صورة الجيل الذي تحق المراهنة عليه؛ جيل لا يكتفي بأن يُعلَّم بل يسعى ليُعلِّم نفسه، ويستخرج من بين السطور نَفَس الوطن وروحه. تلك علامة مضيئة في درب طويل ودليل صادق على أن التمسّك بالعلم ليس نقيضا للحداثة بل هو أعمق وجوهها وأصفاها، وأن ترسيخ الهُوية لا يكون بالشعارات بل بغرس المعرفة في القلوب الصغيرة حتى تزهر وطنا كبيرا في كل واحد منها.






