ثقافة

الأديب والطبيب السوداني أمير تاج السر.. حين تكتب الروح وجعها بين قدر الألم ومصير الحكاية

حاورته فاطمة ابوناجي

بين سماعة الطبيب وقلم الروائي، يعيش أمير تاج السر ازدواجيةً إبداعيةً نادرة، حيث يتحرك بين عالمين يبدوان متناقضين ظاهريًا، لكنهما في العمق متشابكان حدَّ الامتزاج. فهو الطبيب الذي يصغي لأنين الجسد، والكاتب الذي يلتقط وجع الروح. في عيادته، يعاين المرض باعتباره خللًا بيولوجيًا يحتاج إلى دواء، وفي رواياته، يتعامل معه بوصفه جزءًا من مأساة الوجود الإنساني، حيث الألم ليس مجرد عارض، بل هو الشرط الأول للحياة.
في أدبه، يكتب عن المدن الخلفية، عن الشخصيات المنسية التي لا تحتل صدارة المشهد، عن العابرين والمهمّشين، وعن تلك الحكايات التي غالبًا ما تسقط من حسابات التاريخ الرسمي. إنه يستدعي الروح السودانية بكل تناقضاتها: بساطتها وتعقيداتها، ضجيجها وصمتها، واقعها وأساطيرها. وفي كل ذلك، تظل رواياته مشبعةً بنَفَسٍ صوفيٍّ يشي بحسٍّ روحانيٍّ عميق، حيث يتحول النص إلى فضاء للتأمل في المصير، وفي ذلك السؤال الأزلي: لماذا نكتب، ولمن؟
في هذا الحوار، نسعى لأن نستنطق الكاتب والطبيب معًا، نغوص في أسئلة تتجاوز الحدث الروائي إلى قضايا الوجود والروح والمعنى، ونتأمل معه خصوصية رمضان، الزمن الذي تتقلص فيه المادة لصالح الحضور الروحي. كيف يتجلى هذا الشهر في وجدانه؟ وكيف ينعكس على تجربته الإبداعية؟ وهل الصيام مجرد طقس، أم أنه تجربة تصعيدية تحرر الإنسان من أثقال اليومي؟
حوار نحاول فيه أن نقترب من جوهر الكتابة، لا كحرفة، بل كفعل وجودي يتقاطع مع الحياة والموت، مع الأسئلة التي لا إجابات لها، ومع اللغة حين تصبح وسيلة للخلاص.

المحور الأول/ بين الطب والأدب.. هل نكتب لنفهم الحياة أم لنقاومها؟

1 مهنة الطب تعتمد على التشخيص والعلاج، بينما الأدب يفتح الأبواب للأسئلة أكثر من تقديمه للإجابات. كيف تعيش هذه الجدلية بين عالمين متقابلين؟
نعم فاطمة، لكن الطب أيضا يعتمد على الدقة وصولا للتشخيص السليم، وقد تعودت أن أعيش كلا الحالتين لكن منفصلتين تماما، فأنا وقت مواجهة المرضى أختلف عني حين أجلس لأكتب رواية. عموما الإنسان في مثل حالتي يصل لصيغة تآخي غالبا.

2 الطبيب يتعامل مع الألم كحالة طبية، والروائي يتعامل معه كحالة إنسانية. أيّهما أكثر تعقيدًا: الألم الجسدي أم وجع الروح؟

وجع الروح بكل تأكيد، فالألم الجسدي غالبا ينزاح أو يخف بتوفر الأدوية، لكن ألم الروح لا ينتهي أبدا، يظل موجودا وحتى لو توارى قليلا، يعود ليطل برأسه حين أقرب فرصة، أنا أعمل في كلا العالمين كما قلت، ولكن بأدوات مختلفة.

3 سبق لك أن استلهمت شخصياتك من مرضاك. فكيف توازن بين المسافة الأخلاقية للطب والحرية الفنية للأدب؟
كثيرا ما استوحيت شخصيات وأسماء من مرضاي؛ نعم هناك مسافة بين الفن والأخلاق، فأنا لا أكشف سر مريض، ولا أكتبه كما هو إن كتبته، وإنما أستوحي منه، وأضيف ما يحتاجه الفن لإنتاج شخصية معينة. وفي الأعمال التي كتبتها بوصفها سيرة, مثل “قلم زينب” و”تاكيكارديا”، كنت أكتب سيرة فيها مرضى وغير مرضى ولكن أيضا في حدود عدم المساس بأحد، وتعرفين في الوطن العربي، لا يستطع الكاتب أن يكتب سيرته كما حدثت, إنما يحذف منها ما يراه غير مناسب.

4 حين تشخّص مرضًا، فإنك تفعل ذلك بناءً على معطيات علمية دقيقة، لكن حين تكتب عن مصائر شخصياتك، هل تشعر أنك تتقمص دور “الطبيب” الذي يحدد مسار حياتها، أم أنك تتركها لقدرها؟
لا أبدا، لا أتدخل في مصائر شخصياتي، أتركها للمصير الذي يقودها إليه النص، مثلا كان بإمكاني إنقاذ الرزينة من الموت في مهر الصياح، والملكة نديمة في توترات القبطي، ولم أفعل، كنت محايدا، وبكيت حين ماتتا.

5 هل ترى أن الرواية يمكن أن تكون وسيلة للعلاج النفسي، سواء للكاتب أم للقارئ؟
لا أعرف، والله، إن كانت داء أو دواء، أنا شخصيا لا أفرح بالكتابة، لأنها تصيبني بالاكتئاب، فحين أكتب أظل طوال كتابتي مكتئبا وحزينا، ولا أنام إلا قليلا، إنها حالة اكتئابية فعلا. وحين أنتهي، أتنفس بعمق، وأعود لحالتي. أسرتي تعرف ذلك, لذلك لا يعاتبني أحد أثناء الكتابة. بالنسبة للمحور الثاني، صراحة أكتب لأن قدري أن أكتب، جرثومة الكتابة في دمي.

المحور الثاني/ الرواية كفضاء روحي – هل نكتب كي نهرب أم كي ننجو؟

لا أحس أنني أهرب أو أنجو من شيء، على العكس كما ذكرت لك، أحس باضطراب كبير.

6 في رواياتك، ثمة حضور قوي للأماكن بكل ما تحمله من ذاكرة وتاريخ. هل تؤمن أن الأماكن تمتلك أرواحها الخاصة؟
الأماكن كلها ملهمة، والأماكن التي يلم بها الكاتب ويحصل على تفاصيلها، تحمل نصوصه وتسندها، عندي مدينة بورتسودان مثلا، حيث نشأت، إنها ملهمتي الودودة التي تسند نصوصا كثيرا كتبتها مثل “العطر الفرنسي” و”منتجع الساحرات” و”366″.

7 شخصياتك غالبًا ما تعيش في حالة من القلق الوجودي والتأرجح بين الحلم والواقع. هل الإنسان في جوهره كائن مأزوم؟
إلى حد ما، الإنسان يحمل أزماته دائما، ويظل يبحث عن حلول، غير موجودة، والقلق ملازم للحياة، حتى للذين يعيشون حياة خالية من الهم.

8 هل تعتقد أن الأدب يستطيع أن ينقذ الإنسان من عزلته، أم أنه يضاعفها؟
لا أعتقد أنه ينقذه، حين تكتب فأنت منعزل، وحين تقرأ فأنت منعزل. لو أخذنا الأدب كوسيلة ترفيه، نجدها ترفه عن القارئ وهو بعيد عن الضوضاء، ولو أخذناه كوسيلة معرفة، فهي معرفة تنال أيضا في الخفاء، إذن الكاتب منعزل والقارئ منعزل.

9 هل الكتابة بالنسبة لك فعل تأمل ذاتي، أم أنها محاولة لفهم العالم من حولك؟
أظنها محاولة لفهم العالم، وترك أثر فيه، حين أكتب أظل أنظر للناس والأشياء بمنظار مكبر، أحاول أن أستغيث بأفكاري، لمجابهة الخمود والملل، ومساءلة الأشياء.

10 كيف تتعامل مع فكرة المصير في أعمالك؟ هل تعتقد أن الإنسان محكوم بقدر لا يستطيع تغييره؟
نعم هذا أكيد، يوجد قدر لا يمكن تغييره، وإلا لتركت الكتابة منذ سنوات طويلة، الحب قدر، الكره قدر، الدراسة التي درستها والوظيفة التي تعمل فيها قدر, أكيد.

المحور الثالث/ رمضان… حين تنكمش المادة ليتمدّد المعنى

11 رمضان شهر جيد، وهو شهر اختباري لقدرة الإنسان على استيعاب المعنى، ما معنى أنك صائم، والأكل والشرب متوفران؟، ما معنى مضاعفة العبادة؟
إنها اختبارت عظيمة، وسهلة جدا إن كان الإنسان قريبا من ربه.

12 كيف تعيش تجربة رمضان؟ هل هو بالنسبة لك مجرد طقس تعبدي، أم أنه زمن مختلف تتجلى فيه الروح بصورة أكثر صفاءً؟
رمضان, كما قلت, شهر أنتظره بفارغ الصبر، أنتظر التحرر من روتين الحياة، والانغماس في فعل مغاير، أنا أتعبد، واقرأ القرآن كثيرا، ولا أكتب أي شيء، ولا أقرأ كتبا في الأدب أو غيره، إنه شيء أقرب للاعتزال المؤقت، لكنه مهم جدا.

13 هل يؤثر الصيام على إيقاعك الإبداعي؟ وهل ثمة ما تكتبه في هذا الشهر بإحساس مختلف؟
لا أكتب كما قلت لك، وأكتب فقط ما ألتزم به من مقالات هنا وهناك، أما الكتابة الإبداعية، فلا مكان لها.

14 في أجواء رمضان، يزداد حضور التأمل والعودة إلى الداخل. هل تجد أن هذا الشهر يمنحك فرصة لإعادة التفكير في الكتابة والحياة؟
التفكير في الحياة، وما بعد الحياة ممكن، أما الكتابة فلها وقتها الآخر الذي تتمدد فيه بحرية.

15 هل تعتقد أن هناك بعدًا روحيًا للكتابة، أم أنها مجرد ممارسة ذهنية وإبداعية؟
لا أعرف والله شيئا عن البعد الروحي، لكن أعرف الممارسة الذهنية والداعية، وأمارسها بشيء من عدم الإرتياح, كما قلت لك.

16 في ليالي رمضان، حيث الصمت أكثر كثافة، هل تشعر أن الكتابة تصبح أكثر عمقًا، أم أن الروح تكتفي بالتأمل دون الحاجة إلى التعبير؟
لم أجرب الكتابة، لكن الليالي عامرة بالصفاء الروحي أكيد.

المحور الرابع/ بين الواقعي والمتخيَّل – هل يكتب الروائي ذاته أم يكتب الآخر؟

17 هل ترى أن الكاتب، مهما تخفى خلف شخصياته، لا يكتب إلا ذاته؟
ليس دائما، الكاتب يكتب في البداية أي بداياته الأولى ما يعرفه أو ما يتقنه، وسيرته وسيرة جيرانه، ثم يتطور الأمر لكتب تداخلات وفي النهاية يكتب أشياء بعيدة عنه، أنا مشيت الطريق نفسه، وأظن تجربتي واضحة.

18 قد تتداخل سيرتك الشخصية مع عوالمك الروائية، هل تجد صعوبة في رسم الحدود بين الواقعي والمتخيَّل
لا أبدا، سيرتي غير موجودة إلا في الأعمال التي كتبت عليها سيرة: سيرة الوجع، مرايا ساحلية، قلم “زينب”، “تاكيكارديا”. ولا يوجد حتى شذرات من سيرتي في الكتابات الأخرى.

19 كيف تنظر إلى علاقتك بشخصياتك؟ هل تشعر أنها تستقل عنك، أم أنك تظل المتحكم في مصائرها؟
شخصياتي أبذرها، أجعلها تنمو ثم أتركها لمصائرها، ونادرا جدا أن أتدخل في مصير شخصية، أظنني اضطررت لإنهاء بعضها حتى يستمر النص في التدفق، مثل شخصية المدرس في العطر الفرنسي، وشخصية الأمير مساعد في مهر الصياح.

20 هل تؤمن أن كل كاتب يحمل في داخله نصًا لم يكتبه بعد، نصًا يشبهه أكثر من كل ما كتب؟
لا أعتقد ذلك، إنه كلام نظري يردده البعض، أنا شخصيا لا أستطيع كتابة نص أفضل مما كتبت حتى الآن.

المحور الخامس/ الكتابة والقدر.. هل نحن من نختار النص، أم أنه يختارنا؟
أظنه يختارنا، وإلا لاخترنا كل الأفكار وكتبناها، العثور على الفكرة في حد ذاته، يعني أن الفكرة اختارتك لتكتبها.

21 هل تشعر أن هناك لحظات تكون فيها مجرد وسيط لنصٍّ يريد أن يُكتب، وكأن الكتابة تتجاوزك لتصبح كيانًا مستقلًا؟
أنا أكتب بطريقة غريبة، أي أكتب من دون تخطيط، ولا أعرف ماذا سيحدث في السطر القادم، هل يعني هذا أنني وسيط هنا؟، لا أعرف والله.

22 هل مررت بتجربة كتابة نص شعرتَ بأنه جاءك من اللاوعي، كأنه استُدعي من مكان غامض في روحك؟
نعم، رواية إيبولا 76، فجأة نبعت في ذهني حين تذكرت قصة الطبيب التي حكاها لي وأنا طبيب صغير في السودان، وكتبتها بتدفق غريب في أقل من شهر، أظنها رواية جاءت تركض لتكتب ولتؤرخ لذلك المرض اللعين ولتصبح من علامات الكتابة الوبائية في ما بعد، حين غزا فيروس كورونا العالم.

23 هل هناك رواية لم تكتبها بعد، لكنها تلازمك كقدر لا تستطيع التملص منه؟
لا.. كانت هناك أفكار معينة درستها ولكن لم أستطع كتابتها، بمعنى لم يأت أي إيحاء بشأنها، مثل قصة عامل المشرحة السوداني القاتل في اليمن، كنت أراها مشروعا ضخما ولكن لم يحدث شيء.

24 هل تكتب حين تشعر بالحاجة للكتابة، أم أنك تخضع لإيقاع داخلي قسري لا تستطيع مقاومته؟
أكتب حينما أعثر على فكرة وبداية نص تعجبني، هذا هو كل ما في الأمر.

25 هل ترى أن الإبداع نوع من “الوحي الأدبي”، أم أنه مجرد عمل شاق قائم على التمرين والممارسة؟
كل ذلك مجتمع، إيحاء وممارسة شاقة وتدريب، فالأديب ليس كائنا يعيش في رغد من العيش، أو يكتب من طرف أصابعه، إنه ينتظر الإيحاء ويكتبه بمشقة.

26 يقول البعض إن الكاتب يظل طوال حياته يحاول أن يكتب نصه الأول أو الأخير، أي النص الذي يفسّره ويفسر العالم من حوله. هل تشعر أنك كتبت هذا النص أم أنه ما زال في انتظارك؟
أعتقد أنني كتبت نصي داخل هذا الكم من النصوص، ولا حاجة لانتظار نص يخلدني، إنه كما وضحت تنظير فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق