قضايا وآراء

الحكامة الاستشفائية والنجاعة الصحية

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

من أبرز الأوراش وأهم المشاريع التي افتتحها المغرب، وأخذت طريقها إلى الإرساء والتوسيع والتطوير، ورش إصلاح المنظومة الصحية. فبعد التدخلات الملكية القوية والموفقة إبان الأزمة الوبائية العالمية لتأمين هذه المنظومة من الانهيار بسبب ضغط الجائحة وتداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، خصوصا تداعياتها السلبية على استقرار القطاع الصحي والخدمات الاستشفائية والعلاجية، تم الالتفات إلى ضرورة تأهيل المنظومة الصحية الوطنية وترقيتها إلى مستوى التمكين لبلادنا من سيادة صحية تتناسب وحجم الرهانات والتحديات الكبرى لما بعد الجائحة التي عمت بها البلوى في سائر أرجاء المعمور، وكشفت عن ثغرات ونواقص في السياسات الصحية العالمية، وعن تهديدات حقيقية تتعرض لها السلامة الصحية للعديد من الشعوب والدول، بدءا بضعف البنيات الاستقبالية والعلاجية والتكفلية بالمرضى والمصابين، وقصور البنيات الإنتاجية للأدوية واللقاحات عن الاستجابة للحاجيات المتزايدة وتغطيتها، والتفاوتات الكبرى والهائلة بين الدول في ضمان تطعيم مواطنيها ضد الوباء، والحد من تفشيه، وتأخر البحث العلمي وبطئه عن مواكبة الطوارئ الصحية، ومواجهة الجوائح والأوبئة والأدواء والعلل المتزايدة والمتحورة، مما دفع الدول إلى تبني سياسات عمومية مستعجلة، وبحث أخرى لتدارك الخصاص وتوظيف جميع الإمكانات والموارد لدرء المخاطر وحماية صحة المواطنين.
ففي الأسبوع الفارط، صادق المجلس الوزاري المنعقد برئاسة جلالة الملك محمد السادس على مشروع القانون الإطار الجديد للمنظومة الصحية الوطنية والذي سيشكل أرضية للعمل المجسد للإرادة الملكية السامية من أجل رفع التحدي الصحي في المملكة، بعد الرفع التدريجي لتحدي التغطية الصحية الشاملة والتأمين الإجباري عن المرض وتعميم الحماية الاجتماعية التي حظيت بالرعاية الملكية، وسرعت من عمليات استفادة نسبة كبيرة من المواطنين منها، والذين كانوا غير مشمولين بها. واليوم بمصادقة المجلس الوزاري على الدعامة التشريعية المتعلقة بالقانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية تكون بلادنا قد وضعت قطار الإصلاح المؤسساتي والتشريعي للمنظومة الصحية الوطنية على السكة الصحيحة للتوجه إلى بناء مستقبل أفضل للحكامة الاستشفائية والسيادة الصحية الوطنية، بما في ذلك امتلاك رؤية استشرافية للمستقبل، وامتلاك التكنولوجيا الصحية الكفيلة باستدامة خدمات القطاع الصحي وتطويرها، وتمكين جميع المواطنين من ولوجها والاستفادة منها.
هناك عمل جبار أنجز في ظرفية ضاغطة ومتقلبة، ينبغي الإمساك فيها بخيط الأمل لإحداث تحول يتناسب مع تطلعات بلادنا ومع الإرادة السياسية من أجل التنزيل الأمثل لحزمة من الإصلاحات والحلول المتشابكة والمتداخلة والمندمجة بين القطاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية، التي يضمها النموذج التنموي الوطني الجديد والواعد. ونحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تعبئة جماعية للكفاءات والقدرات والإمكانات لتفعيل حصيلة النظر، وخلاصات الاستشارات والاقتراحات التي تبنتها المقاربات التشاركية والاندماجية في تدبير ملفات الإصلاح الذي تجاوز مجرد كونه إصلاحات قطاعية وجزئية، إلى إحداث ثورة في التدبير وفي السياسات العمومية، ينبغي أن تواكبها بالفعل ثورة في العقليات وفي الذهنيات المعول عليها لتنزيل المشاريع وإرسائها، والقطع بصفة نهائية مع المفهوم القديم للإدارة والتدبير، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والتقويم المستمر لنسب الإنجاز وتقدم الأشغال، وتحيين المعطيات وتقديم الحصيلة والنتائج المرحلية، وإنجاز عمليات مراقبة مكثفة لسير مخطط التنزيل على المديين القريب والبعيد.
نحن نعلم أنه لابد من غلاف زمني ممتد لإنجاز ما ينبغي إنجازه من عمليات التهيئة للمشاريع الهيكلية الكبرى وتنزيلها على أرض الواقع وجني فوائدها وثمارها، لكن لا يجب إطلاقا أن يُترك هذا العامل الزمني للعشوائية والانتظارية والتأجيل، أي بدون تخطيط لاستراتيجيات التدخل والعلاج والتقويم للعثرات وكل ما من شأنه أن يعطل المشاريع أو يحد من أهدافها وغاياتها، أو ينتكس بها، أو يراوح بها في مكانها، أو يؤجلها ويعيد جدولتها لزمن غير زمنها. لذلك يتعين على الفاعل الحكومي خاصة الحفاظ على النفس الإصلاحي بكامل ديناميته، وفي كل مراحل التخطيط له وسيرورات إنجازه وتنزيله وتفعيله إلى حين تحقيق غاياته وأهدافه ومقاصده وفي الوقت المحدد، الأمر الذي يدعم ثقة المواطنين في البرامج والمشاريع وفي الإرادة السياسية الصادقة على تحقيقها.
إن الولوج السلس للمواطنين إلى الخدمات الصحية والعلاجية، أو ضمان السيادة الصحية الوطنية، صار إلى جانب الولوج إلى الغذاء والطاقة، من الدعامات الأساسية لمجتمعات ما بعد الجائحة التي أوقفتنا كوارثها على هذا الثالوث المستقبلي الذي تتدافع الدول على توفيره والتحكم فيه وتحصين مكتسباتها وتحسين رتبها التنافسية في إطار صراع دولي جديد يتسم بالضراوة الشديدة على الموارد الغذائية والطاقية والعلاجية. وبإمكان المغرب بحضارته وكفاءاته وموارده، وحكمته وحكامته، وتعاونه وصداقاته وعلاقاته، ورسوخ مؤسساته، وقوته الاقتراحية، ونظرته الاستباقية والاستشرافية أن يحجز مقعده بين الدول الوازنة مستقبليا، وأن يكون له دور كبير في رسم معالم إنسانية جديدة، يقدم مجتمعه ودولته نموذجا حضاريا راقيا عنها. وإن غدا لناظره قريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق