من أجل عدالة أسرية ناجعة
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
لم تشغل المغرب صدمة الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق من الأطلس الكبير، عن الاستمرار في مشروعه النهضوي والتنموي، وعن الوفاء بالتزاماته الداخلية والخارجية في مواعيدها المقررة، خلافا للتوقعات المغرضة التي اغتنمت فرصة الكارثة للحديث عن ردة وتراجع وتأخير وتعطيل في مسيرة المغرب، بسبب من أن متطلبات مواجهة تداعيات الكارثة المدمرة ستوقف عجلة التقدم والصعود، وستجعل المغرب يتفرغ كلية لمعالجة الآثار السلبية للزلزال اجتماعيا واقتصاديا، بما في ذلك توقع تحويل ميزانيات للاستثمار والبناء والنماء إلى صناديق إعادة إعمار المناطق المتضررة، وبما في ذلك أيضا توقع مراجعة ميزانيات الحكومة للسنوات المقبلة، بعد ترتيب أولويات جديدة وطارئة لمعالجة مخلفات الكارثة، وكذلك توقع إلغاء عدد من الاستحقاقات والتظاهرات الإقليمية والدولية المقرر تنظيمها بالمغرب أو التي تَرشَّح لاحتضان فعالياتها. قفزت إلى الأذهان وإلى الإعلام المعادي للمغرب والكاره لنجاحاته، فرحة تأثير الزلزال المدمر والخراب المتوقع والفوضى العارمة في تدبير الدولة للفاجعة وإخفاقها بل إفلاسها في الحد من تداعيات الكارثة، ومن ذلك توقع سحب ملف ترشح المغرب لتنظيم كأس أمم إفريقيا لعام 2025، وتوقع إلغاء أكبر تظاهرة مالية واقتصادية عالمية ستحتضنها مدينة مراكش المفجوعة هذا الشهر، وهي الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي الذي ستحضره أكثر من 180 دولة و14 ألف مندوب رفيع المستوى من صناع القرار المالي الدولي.
لم يقع من كل هذه التوقعات السيئة بالانهيار والإخفاق شيء يذكر، إذ بموازاة عمليات المساعدة على تجاوز المحنة والكارثة الطارئة، من إنقاذ وتوفير للغذاء والدواء والإيواء والاستشفاء، وفك العزلة وفتح الطرقات والممرات، والتكفل بالأيتام والأشخاص في وضعية صعبة، وإحداث صندوق تضامني خاص لجمع التبرعات النقدية، ورسم خطة محكمة ودقيقة لإعادة إعمار المناطق المنكوبة في وقت قياسي، وصد الهجمات المغرضة التي ارتفعت وتيرتها وتشابكت مصالحها في التكالب على بلادنا، أكد شركاء المغرب وأصدقاؤه والمنظمات والهيئات الدولية التي ترتبط مع المغرب بمشاريع وشراكات والتزامات ومواعيد واستحقاقات ثقتهم في المملكة المغربية وفي جاهزيتها، أكثر من أي وقت مضى، لاستضافة أكبر الأحداث والتظاهرات الدولية الممكنة. كما أكدت المملكة المغربية بمواصلتها تعزيز موقعها الاستراتيجي الإقليمي ومكانتها الدولية، سواء في الرخاء أو الشدة على أنها أهل لكل تقدير واحترام واعتزاز المجتمع الدولي بالنموذج المغربي في تدبير النجاحات والمكتسبات وفي الآن نفسه تدبير المخاطر والكوارث.
ففي البلد نفَس مستديم للإصلاح لا ينقطع، ولا توقفه العقبات والعوائق والعوارض والفواجع، وكتأكيد من المغرب على استمرار الحياة والصعود إلى القمم، فإن جميع وعود الإصلاح والتغيير ومشاريعهما المبرمجة، يتم تنزيلها بالتتابع والترابط، وكمثال على ذلك فإنه وبالتزامن مع الذكرى العشرين لتطبيق مدونة الأسرة الجديدة، التي شكلت حينها ثورة اجتماعية رائدة في ظل قيادة جلالة الملك محمد السادس، كحلقة من حلقات المشروع المجتمعي الديموقراطي والحداثي والتنموي الذي انخرط فيه المغرب بكل طموحه وعزيمته ورهاناته الإصلاحية الكبرى، أطلق جلالته من جديد خلال الأسبوع الذي ودعناه، مبادرة لمراجعة هذه المدونة وإعادة النظر فيها بما يتلاءم مع التعديلات الدستورية لعام 2011 التي تجاوزت في سقف إصلاحها ما وقفت عنده المدونة القائمة، وبما يستجيب للتطورات المتسارعة والحادثة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية والمستجدات في أقضية الناس وقضاياهم في المحاكم، وبما يتوافق مع جيل جديد من المطالب والحقوق والحريات المعتبرة التي تفرض التفاعل معها والاستجابة للوجيه والممكن والمقبول منها، في سياق ثقافي واجتماعي مغربي ذي خصوصية، ومطبوع بالتطور السريع، وبما يضمن انسجاما للتشريعات المغربية مع مقتضيات الأوفاق والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وتعهد بملاءمة تشريعاته معها. وبما يحفظ نواة الأسرة المغربية ويحقق، أولا وقبل كل شيء، عدالة أسرية اجتماعية يرفع فيها الظلم وتتحقق فيها السكينة والطمأنينة والعدالة والإنصاف لكل أفرادها، أي بما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية في إزالة الضرر ودرء المفاسد وجلب المصالح ورفع المشقة والحرج.
لقد قدمت الرؤية الملكية السامية لإعادة النظر في مدونة الأسرة وتعديلها، والتي بسطتها التوجيهات الملكية للحكومة، خارطة طريق لإزالة أي التباس بشأن توجه المغرب الإصلاحي، ساحبة بذلك البساط من تحت أقدام عدد من جيوب مقاومة التغيير والإصلاح، ومن ذوي الشكوك والنوايا السيئة التي ترى الفتنة في الاقتراب من موضوع وضعية النساء والأطفال خاصة وكافة المقصيين من حقوقهم المكفولة لهم في المواطنة الكاملة. وقطعا لدابر هذه التشويشات والمشاغبات، فإن الرؤية الملكية كانت واضحة في التأكيد على أن الإطار الذي تتحرك فيه التعديلات على مدونة الأسرة هو مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن الهدف هو الإصلاح ورفع الظلم والغبن والمفاسد، وأن الوسيلة هي الاجتهاد وإعمال النظر والفكر من قبل أهل الاختصاص والعلم والتشريع لالتماس الحلول الناجعة للمشاكل والمعتبرة شرعا، وأن هذه الوسيلة تعتمد المقاربات نفسها التي قادت مسيرة المغرب وأنجحت كثيرا من استحقاقاته في كل المحطات والأزمات، وهي المقاربة التشاركية والتشاورية مع جميع مكونات الأمة وفعالياتها، ضمانا لحد أعلى من التوافق والتجاوب والتفاعل والتلاحم، ودرءا للاستبداد والاستفراد بالرأي والقرار، ثم المقاربة الحقوقية القائمة على الإنصاف والحماية من الظلم والضرر، وضمان وصول العدالة والكرامة لجميع أفراد الأسرة ومكوناتها، وكذا المقاربة المؤسساتية التي تضمن مرور التعديلات عبر أكثر من جهاز ومؤسسة وقطاع يخضعها للنقاش والتأمل والمراقبة والتدقيق والمراجعة قبل أن تأخذ صيغتها التوافقية النهائية.
فأكثر من جهة عالمة ومطلعة وخبيرة وحكمة وحكيمة سواء في مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني سيكون بمقدورها أن تساهم وتبادر باقتراحات وملاحظات، ولا مكان للارتجال والعشوائية والجهالة والسطحية والشعبوية في عمل اللجنة الأكاديمية والمؤسساتية التي تنظر في أمر التعديلات وفي المطالب الإصلاحية، قبل أن ترفع نتائج الاجتهادات وحصيلتها إلى النظر السديد لأمير المؤمنين، الذي أكد في أكثر من خطاب وموقف أن كل شيء مفتوح على التغيير والتحسين والتجويد، إلا شيء واحد وهو مصادمة النصوص الشرعية القطعية بتحليل الحرام أو تحريم الحلال، قاطعا بذلك أي رهان على سلخ المغرب عن هويته الحضارية أو انتمائه الإسلامي، أو قطعه عن جذوره الثقافية وعن مقدساته وثوابته، وكذا أي رهان على التشكيك في نواياه الإصلاحية بالدعايات المغرضة والرخيصة التي تركب الدين لخداع الناس وغشهم وبيع الأوهام لهم وتخويفهم من أي إصلاح أو تغيير لوضعية النساء خاصة، باسم أن ذلك فتنة وخطر ومروق عن الدين، مع العلم أن هذا الدين براء من الظلم والعسف والمشقة والإقصاء لأي مواطن من مواطنته كاملة، ونيل حقوقه المكفولة له بمقتضى التكريم الإلهي له بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو دينه أو لونه.
وكما هو معهود في النموذج الإصلاحي المغربي فإن الاعتدال والتيسير والانفتاح وطلب الخير والحق ونبذ الكراهية والظلم، هو سمة مسارات بنائه وصياغته وتنزيله وتهذيبه وتطويره، ولا يمكن أن يتوقع من مثل هذا النموذج المطبوع بالتشارك والحوار والتفاهم ونشدان الخير في تدبير الحريات والحقوق وإصلاح التشريعات وترقيتها، إلا أن يكون محط تقدير وتثمين من كل منصف صادق ومتجرد في طلب الحق والخير والكرامة لأبناء وطنه وأمته. ولا يسعنا في المغرب الصاعد والواثق في خطوه وفي كفاءة أبنائه في إدارة الاختلاف وتدبير التوافقات، إلا أن ننخرط في دعم المشاريع الحقوقية والتنموية التحديثية للبلاد، وأن نكون جميعا في مستوى الرهانات والتحديات التي تواجهها في عالم لا يرحم متخلفا ولا متباطئا ولا جامدا ولا مقطوعا عن تاريخه وجذوره، ولا خاملا منتظرا أن تمطر السماء حرية وخلاصا وأمنا وعدلا.