الظرفية الوبائية والنزعة الصِّدامية
بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
بدأت جميع دول المعمور في رفع درجات التأهب وتعزيز قيودها في مواجهة تفشي وباء كورونا مع ظهور المتحور الجديد أوميكرون السريع الانتشار، وحذرت العديد من الجهات الصحية المختصة والخبيرة بما فيها منظمة الصحة العالمية من موجة خامسة كاسحة ستضع المنظومات الصحية لدول العالم أمام تحديات مقاومة الوباء الشرس بكل ما توفر لها من قدرات وإمكانات طبية واستشفائية ومداخل علاجية ووقائية، وخيارات أمنية وإدارية قاسية تضع سياسات الدول أمام اختبار صعب لمدى صمودها ومرونتها في آن في مواجهة تهديدين خطيرين على الأقل؛ تهديد الوباء في حد ذاته، الذي استنفرت له السلطات مجهوداتها حسب اختصاصاتها وصلاحياتها، من أجل التعبئة الجماعية وفرض بروتوكولات أمنية وصحية، وتوفير اللقاحات الضرورية والأدوية الكافية، وإعلان الحجر الصحي، وحالات الطوارئ وتمديدها.
والتهديد الثاني يتمثل في الحد من اتساع رقعة التذمر الاجتماعي وحالات الرفض للقيود المفروضة على التنقل وعلى ولوج الخدمات والاستفادة منها، أي للحد من عدد من الحريات المكفولة في الدساتير والقوانين، بما فتح نقاشات واسعة ونزاعات متفرقة على مصراعيها حول مدى قانونية ومشروعية التدابير الصارمة والاستثنائية المتخذة لفرض إغلاق الحدود والمحلات وإلغاء آلاف الرحلات والحد من حرية المواطنين في التجول والاجتماع والتظاهر، والإجبار على تلقي حقنات اللقاح المضاد للفيروس، وجعل الإدلاء بشهادته جوازا لولوج المؤسسات والإدارات والاستفادة من خدماتها، وتشديد الرقابة وإقامة الحواجز الطرقية، وترتيب الغرامات على المخالفين للتعليمات والإجراءات الاحترازية المقررة.
وفي هذا السياق، اندلعت في العديد من بلدان القارتين الأوروبية والأمريكية خاصة، حركات احتجاجية رأت في هذه التقييدات والرقابات مساسا بالحريات وبالمكتسبات الحقوقية والديموقراطية، وصارت المواجهات والاحتكاكات مع السلطات الأمنية من المشاهد المألوفة التي تناقلتها مختلف وسائل الإعلام وتداولتها المواقع الاجتماعية، دون أن يكون لها تأثير سلبي كبير على المسار الديموقراطي في هذه البلدان ولا على التمسك بمواصلة التعبئة لإنجاح حملات التلقيح بالموازاة مع تشديد الإجراءات الاحترازية، بما فيها من تضييقات على حريات التنقل برا وجوا وبحرا، وحرية التجمع والاحتفال، خصوصا مع اقتراب عطل نهاية السنة الميلادية، وظهور سلالات جديدة للفيروس الفتاك.
إن الحساسية الشديدة في الدول الديموقراطية لمسألة التضييق على الحريات، جعلت سياسات هذه الدول في الظرفية الوبائية الحالية، تتأرجح بين معادلة الحفاظ على الصحة العامة لمواطنيها الذي يتطلب التقييد والتشديد والإغلاق والتحديد، والحفاظ في الآن نفسه على المكتسبات الحقوقية والديموقراطية الذي يتطلب دعم الحريات الفردية والجماعية، بما فيها الحق في حرية التعبير والاختيار، والإقرار بالحق في الاختلاف بما فيه من رفض واعتراض. والدول التي ستنجح مستقبلا في تخطي الوضعية الوبائية بأقل الخسائر الممكنة هي الدول التي ستكون قادرة على أن تحل، بتجربتها وبرصيدها من القيم الحضارية والإنسانية، معادلة التلازم بين الحقوق والواجبات، وتدبر بحكمة بالغة وضعيات التعارض بين مصلحتين كفرض القيود ورفعها، أو بين مصلحة ومفسدة كالاختيار والإجبار، أو بين مفسدتين كانفراط الأمن الصحي وانفراط الأمن الحقوقي والعقد الاجتماعي.
والمعلوم لدى فقهاء التشريع أن دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح، في حال التعارض، وأن ارتكاب الضرر الخفيف لدفع الضرر الكبير معتبر كذلك في المعادلات والمعارضات.
ولهذا فإن بلادنا بحكم كونها دولة المؤسسات والحريات والحقوق، ليست بدعا بين الدول الديموقراطية في ما تواجهه بدورها من تحديات التوفيق في النازلة الوبائية بين ثوابتها العامة المتعلقة بالتزاماتها الحقوقية والديموقراطية، والمتغيرات الخاصة المتعلقة بمكافحة تفشي الوباء عن طريق سن تدابير وإجراءات تقييدية لعدد من الحريات، وهي الإجراءات التي من الطبيعي أن تتضايق منها فئات من المواطنين، سواء ممن يشعرون بضغطها على حياتهم العامة، أو من الرافضين للخضوع للبروتوكولات الصحية والأمنية، الخاصة بالحجر والطوارئ، أو من الممتنعين عن تلقي التلقيحات المقررة والمشككين في جدواها. الأمر الذي يقتضي مزيدا من الحرص على توسيع الحوار والتواصل والتوعية بهدف تبديد المخاوف ورفع درجة الوعي، واعتبار النقاش الدائر بشأن الإجبار من عدمه نقاشا صحيا يجري في بلد مسؤول وديموقراطي، وذي دينامية اجتماعية، حريص على أمنه الصحي والاجتماعي كما هو حريص على الحقوق والحريات، له من المناعة في مواجهة وباءي الفيروس الشرس والحملات التضليلية والاستغلالية والتيئيسية والتشكيكية في النوايا، ما يكفي لتقوية جبهته الداخلية، والتصدي الجماعي لكل المغرضين، وتفويت الفرص على من يرومون استغلال ضغوط الحجر الصحي وتدابيره، وتذمر الفئات المتضررة منها، لكي يصفوا حسابات سياسية ضيقة مقيتة في فترة عصيبة ومفصلية لا تحتمل أي انتكاسة بالوضع الصحي للبلاد.
إن التوسع في النزعة الصدامية والرافضة والتصعيدية، في ظل تصعيد الوباء لهجومه وانتشاره واكتساحه، من شأنه أن يعصف بالمكتسبات المحققة في بلادنا في مواجهة الوباء وتداعياته، ونحتاج دولة ومجتمعا وفاعلين ونشطاء ومواطنين إلى الهدوء اللازم والحكمة البالغة في تدبير الخلافات العادية والنقاشات الطبيعية بمزيد من التجرد والترفع عن الحزازات والتوترات والانتهاكات، مع عدم التراخي في توجيه المواطنين إلى مزيد من الالتزام بالتدابير الوقائية المقررة من استعمال الكمامات والتعقيمات الضرورية والتباعد الجسدي، وعدم غشيان أماكن التجمعات الكبرى ذات التهديد المرتفع بعدوى الإصابة، مع مواصلة تلقي اللقاحات التمنيعية، وهذا أقل ما يمكن الإسهام به من أجل الوطن، ليس فحسب للحفاظ على بنياننا الصحي الجماعي، بل لتخطي هذه العقبة أو هذا الحقل المليء بالألغام، بأقل الخسائر الممكنة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وبقدرات متجددة على مواجهة استحقاقات ما بعد كورونا التي سيكون فيها لبلادنا موقع معتبر في الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية الجديدة. وإن موعد حصاد نتائج هذه الحكمة المغربية والمصابرة والتعبئة الوطنية لقريب.