جلسة أدبية تنسج جسور الترجمة والثقافة.. “سيدات القمر” العربية لجوخة الحارثية في حلّة ألمانية

فاطمة أبوناجي –
ضمن فعاليات الدورة التاسعة والعشرين لمعرض مسقط الدولي للكتاب، قدمت جلسة حوارية استثنائية، وُسمت بعنوان: “الترجمة الألمانية الجديدة لرواية الدكتورة جوخة الحارثية “الأجرام السماوية”، في لقاء أدبي حافل بالعوالم السردية والتأملات الثقافية والفكرية العميقة. حضرته “رسالة الأمة” وأشرفت على تنظيمه السفارة الألمانية في مسقط. لم يكن اللقاء مجرد احتفاء بنص مترجم، بل كان منصّة لتلاقي الأرواح عبر اللغة وتحاور الهويات عبر الأدب.
تألقت الكاتبة العمانية جوخة الحارثية، الحاصلة على جائزة مان بوكر العالمية عام 2019، في هذا اللقاء الذي استعرض فيه الحضور الترجمة الألمانية لروايتها الشهيرة “سيدات القمر”. وقد حملت الرواية في نسختها الألمانية عنوان “الأجرام السماوية”، وهو ترجمة مباشرة من العنوان الأصلي قامت بها الألمانية الدكتورة كلاوديا أوت، المعروفة بترجمتها الرائدة لألف ليلة وليلة إلى الألمانية.
في مداخلتها، أكدت جوخة الحارثية أهمية هذا الحدث قائلة: “ترجمة الرواية إلى اللغة الألمانية تمثّل خطوة حيوية نحو توسيع رقعة التلقي، والوصول إلى قرّاء ناطقين بالألمانية في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي يُسهم في تعريفهم بصورة متعددة الأبعاد عن المجتمع العُماني، بكل ما فيه من تحولات، وتقاليد، وتطلعات حديثة”.
تميّز اللقاء بقراءات أدبية مختارة من الرواية، أُلقيت بلغتين: العربية، كما خطّتها يد المؤلفة، والألمانية، كما صاغتها بروح شعرية المترجمة كلاوديا أوت. كانت القراءة بمثابة جسر حيّ يربط بين ضفتي اللغة والثقافة، بين النص الأصل وروحه المعاد بعثها بلغة أخرى، وكأنها موسيقى تُعزف على وترين مختلفين لكنهما منسجمان.
وقد كشفت المترجمة كلاوديا عن عمق تجربتها في نقل هذا العمل إلى الألمانية، مشيرة إلى أن الرواية تمثّل تحديًا حقيقيًا نظراً لتعدّد الشخصيات وتنوّع الأساليب فيها، ما اضطرّها إلى تنويع التراكيب والتعابير بما يتناسب مع هذا التعدد، دون الإخلال بجمالية الأصل. وأكدت أنها “تعمدت إدخال عناوين للفصول في النسخة الألمانية، كاختيار تعبيري يعكس التحولات الداخلية في النص ويُسهم في توجيه القارئ نحو مرافئ التأمل”.
لكن ما أثار الإعجاب حقًا هو إشارتها إلى أنها لم تكتفِ بالترجمة النثرية، بل سعت إلى نقل الشعر العربي الذي يرد في الرواية إلى الألمانية مستخدمة نظام البحر الشعري، لا سيما بحر البسيط، محاولة بذلك الحفاظ على الإيقاع والموسيقى التي يتسلل بها الشعر العربي إلى روح المتلقي. وقد عبّرت عن ولعها باللغة العربية قائلة: “أحببت اللغة العربية بكل تفاصيلها: مفرداتها، تنغيمها، وأبعادها التاريخية والروحية. إنها لغة تفيض بالشعر حتى في نثرها.”
لم تكن الترجمة، كما بدا في هذا اللقاء، مجرد أداة لنقل المعنى، بل ممارسة فلسفية عميقة، وإعادة خلق للنص من رحم لغة جديدة. فالترجمة في هذا السياق لم تكن وفاءً حرفيًا، بقدر ما كانت إبداعًا موازيا. فقد استطاعت كلاوديا أن تخلق فضاءً سرديًا ألمانيًا يحتفظ بروح الرواية العربية، ويعكس في الوقت نفسه حساسية القارئ الألماني ورهافه الذوقي.
ومن خلال هذا العمل، تُصبح الرواية نافذة كاشفة عن التحولات الاجتماعية والوجدانية في سلطنة عمان، ومرآة تعكس صورة المرأة العمانية التي تمور بداخلها صراعات الهوية، وتقلبات الزمن، وأحلام الانعتاق. وقد حملت الرواية – في كل لغاتها – تلك الروح الإنسانية الكونية التي تتجاوز الجغرافيا، لتخاطب الإنسان في أي مكان.
الجدير بالذكر أن رواية “سيدات القمر” قد شكّلت علامة فارقة في الأدب العربي المعاصر، بكونها العمل الأول المكتوب بالعربية الذي يحصد جائزة مان بوكر العالمية، ما أكسب الأدب العماني بُعدًا عالميًا، وفتح الباب أمام النص العربي ليخاطب الآخر بلغته، دون أن يفقد جذوره أو نبرته الأصلية.
وهكذا، لم تكن هذه الجلسة مجرد مناسبة للاحتفاء بترجمة، بل لحظة ثقافية وإنسانية بامتياز، تذكّرنا بأن الترجمة ليست فعلاً لغويًا فحسب، بل فعل إيمان بالآخر، ومغامرة جمالية وفكرية، فيها يتوارى المؤلف أحيانًا ليولد نص جديد، يحمل بين سطوره تواقيع كاتبة ومترجمة، كلٌّ منهما يعزف بلغته، لكنهما يلتقيان في نشيدٍ واحد: نشيد الأدب العابر للغات.
ففي زمن تتسارع فيه المسافات وتضيق فيه فسحة التفاهم، تبقى الترجمة – كما دلّت هذه الجلسة – سبيلاً نبيلاً لخلق المعنى المشترك، ولأن تُصبح الكلمة مرآة عاكسة لتعددنا الإنساني.