ثقافة

المؤسسات الثقافية والمواطنة الرقمية.. محاضرة فكرية في معرض مسقط الدولي للكتاب

فاطمة ابوناجي مسقط –

أضحت الحاجة ملحة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والفضاء الرقمي، في مرحلة زمنية تتسارع فيه التحوّلات الرقمية وتتشابك فيه الهويات على الشاشات، وتأسيس وعي جديد يُرسّخ قيماً أخلاقية ووطنية ضمن ما يُعرف بـ”المواطنة الرقمية”. من هذا المنطلق، نظّمت جامعة نزوى يوم 24 من أبريل الجاري، محاضرة فكرية تحت عنوان “دور المؤسسات الثقافية في تعزيز المواطنة الرقمية”، وذلك ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته التاسعة والعشرين.

خلال افتتاح المحاضرة، قدّم الدكتور جمال بن مطر السالمي، الأستاذ المشارك في قسم نظم المعلومات بجامعة نزوى، قراءة موسعة لمفهوم المواطنة الرقمية، موضحاً أنها ليست مجرد قدرة على استخدام الوسائط الحديثة أو امتلاك مهارات تقنية، بل هي منظومة متكاملة من القيم والسلوكيات والانتماء الحضاري، تُترجم من خلال تفاعل الفرد المسؤول في الفضاء الرقمي.
وبيّن الدكتور السالمي أن المواطنة الرقمية امتداد طبيعي للمواطنة التقليدية، تتطلّب وعياً قانونياً وأخلاقياً يحدّد سلوك المستخدم، تماماً كما يعي الفرد حدوده الجغرافية في الواقع، مشدداً على ضرورة احترام القوانين الرقمية، وآداب النشر، ومواجهة التنمر وخطابات الكراهية.

المؤسسات الثقافية شريك استراتيجي في بناء الوعي الرقمي

أكد المحاضر على أن المؤسسات الثقافية، بمختلف أشكالها—من مكتبات عامة وأكاديمية، مراكز معلومات، بيوت ثقافة، وجمعيات أهلية—تلعب دوراً حيوياً في تشكيل وعي رقمي جماعي مسؤول، مشدداً على أن هذه المؤسسات يجب ألا تكتفي بدور أرشيفي أو تقليدي، بل تتحول إلى حاضنات للمعرفة الرقمية.
وأضاف أن هذه المؤسسات مطالبة بتقديم برامج توعوية وتثقيفية حول السلوك الرقمي، ومرافقة الأفراد، خصوصاً الشباب، لفهم حقوقهم وواجباتهم كمواطنين رقميين، إلى جانب تعزيز التفكير النقدي ومهارات التحقق من المعلومات، في مواجهة سيل هائل من المعطيات الرقمية التي تتراوح بين الصدق والتضليل.
كما أشار إلى أهمية التعبير عن الهوية الوطنية في العالم الرقمي، مبرزاً أن للمستخدمين، خصوصاً في السلطنة، مسؤولية في نقل صورة حضارية عن المجتمع العُماني وقيمه الأصيلة، من خلال كل ما يُنشر ويُبث على المنصات الرقمية.

الركائز الأخلاقية للمواطنة الرقمية

تطرّقت المحاضرة أيضاً إلى أبرز الركائز التي تقوم عليها المواطنة الرقمية، والتي تُعدّ أساساً لا غنى عنه لبناء تفاعل رقمي سليم، من بينها: الأخلاقيات الرقمية: احترام الرأي الآخر، تجنّب الإساءة والتنمر، والالتزام بأدب الحوار. وكذا الأمن الرقمي: التوعية بمخاطر اختراق الخصوصية، وكيفية حماية البيانات الشخصية. كما تناولت المحاضرة التجارة الرقمية: فهم الأبعاد القانونية للمعاملات الإلكترونية وحماية المستهلك. وتم الحديث ايضا خلال المحاضرة عن الهوية الوطنية: إبراز الخصوصية الثقافية العُمانية في الفضاء الرقمي كجزء من الانتماء الحضاري.

من التوعية إلى التمكين.. خارطة طريق مجتمعية

شدد الدكتور السالمي على أن بناء المواطنة الرقمية ليس فعلاً ظرفياً أو نشاطاً موسمياً، بل هو مشروع وطني طويل الأمد، يتطلب تكاملاً في الأدوار بين المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية والدينية، وينبغي أن يشمل تنظيم ورش تدريبية ودورات توعوية حول آداب الاستخدام الرقمي. ويشمل ايضا إنتاج محتوى رقمي تثقيفي هادف، بلغات متعددة تلائم مختلف الفئات.
• تعزيز ملكة التفكير النقدي والحس التحليلي، خاصة لدى فئة الشباب. كما يجب ان يشمل إشراك المؤسسات الثقافية في صياغة السياسات الرقمية بما يحمي الهوية ويعزّز القيم الوطنية.
كما دعا المتحدث إلى ضرورة نشر ثقافة القراءة والاطلاع كأساس للتفاعل الإيجابي مع العالم الرقمي، مع التأكيد على ضرورة أن يكون لكل فرد وعي بالأبعاد الدينية والقانونية والاجتماعية لما ينشره عبر الإنترنت.

الذكاء الاصطناعي والسؤال الأخلاقي

في ختام المحاضرة، تطرق الدكتور السالمي إلى موضوع الذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى التحديات الأخلاقية التي يفرضها هذا المجال، خصوصاً في ما يتعلق بـحقوق الملكية الفكرية، وحماية البيانات، وضمان الاستخدام المسؤول لهذه الأدوات.
وأكد أن أي توظيف لهذه التكنولوجيا ينبغي أن يتم ضمن أطر قانونية وأخلاقية تراعي الخصوصية الثقافية للمجتمع العُماني، وتحمي أمنه المعرفي والهوياتي.

دعوة إلى مشروع وطني للثقافة الرقمية

من خلال ما قدّمته جامعة نزوى في هذه المحاضرة يمكن القول تجاوز حدود النشاط الأكاديمي، ليشكّل دعوة مفتوحة لتأسيس مشروع وطني شامل للثقافة الرقمية، يستجيب لتحولات العصر، ويعيد تأهيل المواطن العربي، والعُماني خصوصاً، ليكون فاعلاً وواعياً في فضاء رقمي يتطلب مهارات ومعارف جديدة، دون أن يفقد جذوره أو يتخلى عن قيمه.
إن المؤسسات الثقافية اليوم مدعوّة إلى أدوار ريادية جديدة، تتجاوز حدود الكتاب والندوة، لتكون شريكاً فعلياً في بناء وعي حضاري رقمي، يحصّن المجتمع ضد التحديات الثقافية العولمية، ويمنح المواطن القدرة على التفاعل الأخلاقي والمسؤول مع عالم متغيّر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق