الدورة الـ29 لمعرض مسقط الدولي للكتاب.. 674 دار نشر من 35 دولة في احتفاء معرفي يرسّخ مكانة عُمان الثقافية

فاطمة ابوناجي / مسقط –
افتتحت سلطنة عمان يوم الخميس ال24 من أبريل فعاليات النسخة التاسعة والعشرين من معرض مسقط الدولي للكتاب، كاشفةً عن مشهد ثقافي نابض بالحياة، وسط حضور رسمي وفكري لافت، وبمشاركة 674 دار نشر تمثل 35 دولة، منها المغرب، جاءت لتؤكد من جديد أن المعرض ليس مجرد فعالية سنوية، بل حدث معرفي مؤسس يرسّخ حضور سلطنة عمان على خارطة الثقافة العربية والدولية.
وانطلق المعرض برعاية من صاحب السمو السيد الدكتور فهد بن الجلندى آل سعيد، رئيس جامعة السلطان قابوس، وبحضور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة حاكم إمارة الشارقة، ومعالي الدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي، وزير الإعلام العُماني ورئيس اللجنة المنظمة، انطلقت هذه الدورة في مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض وسط زخم ثقافي استثنائي، يعكس تراكم التجربة وعمق الرؤية التي قادت المعرض ليغدو أحد أبرز التظاهرات المعرفية في المنطقة.
المعرض الذي يُعد تظاهرة فكرية متجددة، يستقبل قرّاءه من مختلف الأعمار والخلفيات، بمكتبة هائلة تتجاوز 681 ألف عنوان، بينها أكثر من 467 ألف إصدار باللغة العربية و213 ألفًا بلغات أجنبية، ما يؤكد تنوع المحتوى واتساعه، ليصبح المعرض مرآة للثقافات، وفضاءً رحبًا لتبادل الأفكار وإعادة رسم العلاقة بين القارئ والكتاب.
وعلى امتداد 1141 جناحًا، منها 640 دار نشر مشاركة مباشرة و34 تمثلها وكالات، يشهد المعرض زخماً لافتًا من الأنشطة والفعاليات، من أبرزها الاحتفاء بالثقافة السعودية من خلال برنامج “الأيام الثقافية السعودية”، الذي يشهد حضورًا نوعيًا لمؤسسات رائدة ومفكرين ومبدعين سعوديين. المشاركة السعودية، التي تضم 38 دار نشر إلى جانب مؤسسات مثل هيئة الأدب والنشر والترجمة ودارة الملك عبد العزيز ومجمع الملك سلمان للغة العربية، جاءت لتجسّد عمق العلاقات الثقافية بين السلطنة والمملكة، وتؤكد الدور المتنامي للثقافة الخليجية في الساحة العربية.
ولم تقتصر أضواء المعرض على الضيوف فحسب، بل امتدت إلى الداخل العُماني، حيث حلّت محافظة شمال الشرقية ضيف شرف الدورة، وقدّمت عبر جناحها برنامجًا متنوعًا من 15 فعالية شملت الأدب، والبيئة، والتعليم، والتراث، إلى جانب عروض تعريفية بالموروث السياحي والبيئي، وورش للأطفال، وركن للذكاء الاصطناعي، وحقائب معرفية توزّع على الطلاب لتعزيز الهوية العُمانية. وصرّح سعادة محمود بن يحيى الذهلي، محافظ شمال الشرقية، بأن المشاركة تمثل فرصة لتقديم الوجه الثقافي الغني للمحافظة، والتعريف برموزها العلمية ومعالمها التاريخية.
من جانبه، دشّن سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي جناح هيئة الشارقة للكتاب، بإطلاق عمل جديد له بعنوان “البرتغاليون في بحر عُمان – حوليات في التاريخ”، في واحد وعشرين مجلدًا، يشكّل إضافة معرفية قيّمة في الحقل التاريخي، ويعزز الحضور الخليجي في ساحة البحث العلمي والتوثيق.
وعلى مستوى المؤسسات الإعلامية، كانت وزارة الإعلام العُمانية حاضرة بأربعة أجنحة تمثّل مختلف قطاعاتها، من بينها وكالة الأنباء العُمانية ومديرية الإعلام الإلكتروني التي أطلقت مبادرة “عين للطفل”، وهي منصة جديدة تُعنى بإنتاج محتوى معرفي موجه للطفولة، يسهم في غرس القيم الوطنية والمعرفية، ويواكب تطلعات الأجيال الجديدة لبناء جيل متوازن ومثقف.
أما البرنامج الثقافي المصاحب، فقد جاء غنيًا ومتنوعًا، إذ يضم أكثر من 211 فعالية ما بين ندوات فكرية، وورش عمل، وعروض مسرحية، ولقاءات توقيع كتب، تغطي طيفًا واسعًا من المعارف والعلوم، وتستهدف جميع الفئات، مع تخصيص أكثر من 150 نشاطًا للأطفال والعائلات، تتنوع بين مسرحيات تعليمية مثل “كتابي رفيق دربي” و”نور المعرفة”، وورش في الحكي والخط العربي ومبادرات قرائية مثل “تحدي الوقت مع القراءة” و”بيرق التميز”، ما يجعل من المعرض فضاءً تفاعليًا يجمع بين المتعة والتعلم.
ويشهد المعرض أيضًا حضورًا فعّالًا للمهتمين بصناعة النشر من محررين ومصممين وموزعين، حيث تُعقد اتفاقيات وشراكات مهنية بين دور النشر والمؤلفين، في مشهد يعزز من دينامية النشر العربي، ويمنح المؤلفين فرصة مباشرة للالتقاء بجمهورهم، عبر حفلات توقيع تتحول إلى منصات حوار وتفاعل فكري حيوي.
وقال أحمد بن سعود الرواحي، مدير معرض مسقط الدولي للكتاب، إن الدورة الحالية تمثّل عرسًا ثقافيًا بكل المقاييس، مشيرًا إلى الحضور اللافت لشخصيات أدبية وثقافية بارزة من السلطنة ودول الخليج. وأضاف أن شعار الدورة “التنوع الثقافي ثراء للحضارات” يعكس الرؤية التي يتبناها المعرض، بكونه مساحة مفتوحة للحوار والانفتاح والتلاقي بين الثقافات.
وبهذا الحضور المتعدد الأوجه، ومع تنوّع البرامج والمشاركات، يواصل معرض مسقط الدولي للكتاب رسم ملامح خصوصيته كأحد أبرز المعارض العربية، بل كحدث تأسيسي يعيد تعريف موقع الكتاب في حياة الإنسان، ويدعم صناعة النشر، ويحتفي بالقارئ بوصفه محور العملية الثقافية.
لقد تجاوز المعرض مفهوم الفعالية الموسمية المرتبطة بالكتاب ليغدو مؤسسة فكرية قادرة على بناء الجسور بين الثقافات، وتشكيل فضاء حيّ للحوار الحضاري في زمن تزداد فيه الحاجة إلى الملتقيات التي تستبقي للمعرفة قدسيتها، وللكلمة وزنها، وللثقافة دورها في التوازن الاجتماعي والنهضة الفكرية. ففي كل ركن من أركانه، ينبض المعرض برؤية تؤمن بأن المعرفة ليست رفاهًا، بل ضرورة، وأن بناء الأمم لا يتم إلا عبر الكتاب، بوصفه مرآة للتجربة الإنسانية، وأداة لصياغة الوعي وتحرير الخيال.
ولعل ما يمنح هذه الدورة طابعها الفريد ليس فقط في أرقام المشاركين وضخامة العناوين والبرامج، بل في قدرتها على جمع التنوع الإنساني تحت سقف واحد، حيث تتجاور إصدارات دور النشر الخليجية والعربية مع نتاجات الفكر الغربي والشرقي، ويقف القارئ العُماني والخليجي أمام خارطة ثقافية ممتدة، تجعله شريكًا فاعلًا في مشهد ثقافي يعبر حدود اللغة والجغرافيا.
كما يُحسب لهذه الدورة احتفاؤها بالطفل ليس فقط كقارئ ناشئ، بل كفاعل مستقبلي في مشهد المعرفة. ففي مبادرات مثل “عين للطفل” وركن الذكاء الاصطناعي، يتجلى إدراك عُمان العميق بأن مستقبل الثقافة يبدأ من الطفولة، وبأن الاستثمار في الوعي الناشئ هو استثمار في مصير أمة. وهنا، لا يقدَّم الطفل كمستهلك للمعلومة، بل كشريك في صناعتها، ضمن مقاربة تشاركية تنهض على التفاعل لا التلقين.
إن حضور الشخصيات الفكرية البارزة، من الخليج وسائر البلدان العربية، وما رافق ذلك من توقيعات كتب، وحوارات فكرية، وعروض مسرحية، لا يؤشر فقط إلى دينامية المشهد الثقافي، بل إلى إيمان راسخ بأن الثقافة ليست نخبويّة، بل متاحة، وتملك القدرة على النفاذ إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، ما دامت قنواتها مفتوحة، ومساراتها مدروسة.



