قضايا وآراء

انتصار لقيم التلاحم والتضامن والتراحم

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس –

نجح الشعب المغربي بكل فئاته وهيئاته وجهاته في رفع تحدي الإمساك هذا العام عن نحر أضاحي العيد استجابة لطلب جلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين بتعليق سنة الذبح إلى حين تعافي القطيع الوطني من الاستنزاف واستقرار أسعار الذبائح وحماية القدرة الشرائية للأسر المغربية خصوصا منها ذات الدخل المحدود، وتحسن الظروف الاقتصادية الوطنية والمناخية الصعبة، وتفادي اللجوء إلى الاستيراد المفرط وبالعملة الصعبة للماشية في هذه المناسبة الدينية التضامنية، والمنهك لميزانية الدولة.

وكانت العديد من الجهات المغرضة والمتربحة من الأزمات والمتاجرة في آلام البسطاء، ومنها الجهاتالخارجية المعلومة بالعداء الكلاسيكي للمغرب التي تحاول دائما تشويه القرارات الشرعية المسؤولة للدولة المغربية في تنظيم الشأن الداخلي المغربي ورعاية المصالح الاجتماعية والروحية للأمة، بما يتناسب مع مقاصد الشريعة الإسلامية، قد اهتبلت هذه الفرصة للاصطياد في الماء العكر، وروجت خلال النازلة لمجموعة من المغالطات الدينية والسياسية، بهدف كسر تضامن المغاربة والتفافهم وراء حامي حمى الملة والدين، وراعي مصالح الأمة، وضامن استقرارها وأمنها.

غير أن الحملات الاستفزازية والتحريضية القوية الموجهة للشعب المغربي قبيل أيام من حلول مناسبة عيد الأضحى المبارك، لدفعه إلى تحدي الإهابة الملكية بالامتناع عن نحر الأضاحي، باءت جميعها بالفشل، ليس بسبب مما روجته هذه الجهات من تجند السلطات المغربية لمحاربة كل مظاهر اقتناء الأضاحي ومصادرتها، لأن لا شيء من تحرك السلطات قد وجه ضد المواطنين وضد إرادتهم، بل وجه خصيصا لمفتعلي الأزمات من المحتكرين الذين دخلوا أسواق المواشي باستراتيجيات ملتوية وملتفة على الإهابة الملكية، برفع أسعار اللحوم، وإلهاب الأسواق، وخلق وضعيات جديدة للتهافت على اللحوم وعلى أحشاء الخرفان وعدد من أجزائها التي تعتبر من المكونات المفضلةفي أطباق عيد الأضحى، رغم استقرار مواقف الأسر المغربية على التفاعل الإيجابي والتجاوب المنقطع النظير مع الإهابة الملكية، واختيارها بمحض إرادتها التي تلتقي مع الإرادة الملكية الرافعة للحرج، الاكتفاء باقتناء الحد الأدنى من اللحوم لإعداد وجبات يوم العيد.

والمعلوم للقاصي والداني أن حتى الإهابة الملكية نفسها بعدم نحر الأضاحي هذا العام لم تأت من فراغ بل كانت استجابة لمطلب شعبي برز بقوة خلال عيد السنة الفارطة، بعد أن بلغت أسعار الأكباش أرقاما قياسية غير معقولةولا تطاق، جراء الندرة وجراء سلوكات الاحتكار والمضاربات والوساطات التي أضرت بمصالح الناس وألحقت بميزانيات الأسر أزمات خانقة، ولم تنفع الإجراءات الحكومية المتخذة لتعويض النقص والخصاص بالاستيراد في خفض أسعار الأضاحي. وتكفي العودة إلى النقاش العمومي ونتائج استطلاعات الرأي في السنة الفارطة لتعرف النسبة المرتفعة لمؤيدي الإلغاء الظرفي للأضحية، ورفع الحرج والضغط الاجتماعي خاصة عن المواطنين، بالاستناد إلى سيرة الرسول الأعظم وخلفائه الراشدين والسلف الصالح، وإلى فتاوى شرعية معتبرة، وإلى سوابق في التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب، ونكتفي بالإشارة هنا إلى خلاصة استطلاع الرأي الذي أنجزه المركز المغربي للمواطنة في ماي 2024، والذي سار في اتجاه هذا المطلب الشعبي، والإهابة الملكية التي ابتهج لها المواطنون وتلقوها بالتقدير والاحترام اللازمين، خصوصا بعد أن تسببت مباشرة بعد النداء الملكي، في تهاوي أسعار اللحوم وانفراج غمة وأزمة شديدة بلغت ذروتها بارتفاع أسعار اللحوم الحمراء إلى ضِعفها.

تحققت هذا العام فرحة العيد للجميع بكل المراسيم والتقاليد والشعائر والصلوات والزيارات التي قام بها المغاربة، دون أن يمس امتثالهم للإهابة الملكية بعدم نحر الأضاحي، بكبريائهم ولا بالزخم الروحي والترابط الاجتماعي والتضامن في السراء والضراء بين الأفراد والعائلات، وتحققت مقاصد الشريعة في التراحم بين الناس والتيسير على العيال، بل وصل ثواب الأضحية نفسها، المراد من هذه الشعيرة، بتكفل جلالة الملك أمير المؤمنين بنحر كبشين أملحين أقرنين سيرا على سنة وهدي جده المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم بالتضحية عن نفسه وعن أمته، ليثبت الأجر إن شاء الله لجميع من لم يذبح من الأمة أيضا.

فلا فرحة العيد صودرت، ولا شعائره منعت، ولا مصالح العباد ضيعت، ولا ثواب الأضحية أو أجرها حرم منه من لم يقتنيها ويذبحها. وإذ ارتفع وعي المواطنين إلى هذه الدرجة يكون المغرب الروحي والحقوقي قد ألقم حجرا كل المتنطعين والمغرضين والساعين إلى الفتنة وتفكيك الروابط القوية القائمة بين قيادة الأمة وقاعدتها، وفوت عليهم فرصة كانوا يعتقدون أنه من السهولة بمكان أن يستغلوها لضرب اللحمة الداخلية المغربية العصية على الكسر، وأعطى درسا أخلاقيا جديدا في الانتصار للحق والتضامن، والاستجابة لنداء الوطن ومصالحه العليا، حيث لم يجد المغاربة حرجا كبيرا ولا ضيقا في اجتياز امتحان الحفاظ على معادلة الشعيرة الدينية المباركة والمصلحة الدنيوية المرعية.

درس عيد الأضحى المبارك في المغرب من الصعوبة بمكان أن يتكرر في بلد إسلامي، ليس لجراءة المغاربة على الشعائر الدينية، بل لاحترامهم الكبير لإمارة المؤمنين التي تزن المصالح والمفاسد بميزان من العلم والفقه والمعرفة، قبل الإقدام على أية خطوة للاجتهاد في رعاية مصالح العباد وضمان أمنهم الروحي وطمأنينتهم وسكينتهم، ورفع الضرر والحرج عنهم .

أما المصلحة المجلوبة والضرر المدفوع هذه السنة التي يواجه فيها المغرب تحديات الاستنزاف المفرط لقطيعه الوطني من الأغنام والشياه، وتقلص المراعي وندرة الأعلاف وغلائها، وتوالي سنوات الجفاف، فإن التقارير والدراسات الاستطلاعية والتشخيصية عن حالات هذا القطيع وأوضاعه، ستثبت كما أثبتت في السنة الفارطة، أن سَنَةً للراحة من الذبح المفرط واستعادة عافية ونسل القطيع، ستكون من أهم القرارات المسؤولة والحازمة للدولة لضمان المرور الآمن إلى سنة موالية، يُحفظ فيها هذا القطيع ويجدد وينمى ويزيد،ليكون العرض بالوفرة المطلوبة وبأثمنة مناسبة وفي متناول الجميع، حتى لا يبقى بيننا محروم مستثنى من فضل هذه الشعيرة الدينية، وفي ظروف أفضل لاستكمالها على الوجه الشرعي المقصود.

فهنيئا لشعبنا اجتيازه الناجح لهذا الاختبار العسير الذي لا يصمد فيه إلا الراسخون في الولاء والوفاء لمقدسات بلادهم ومصالحها العليا والاستجابة لنداء قيادتها الحكيمة والحَكَمَة في السراء والضراء وحين البأس، وليخسأ كل من تجرأ من الأغراب في هذا العيد الكبير ليفتن الناس في دينهم ودنياهم، ويحرضهم ويتحرش بهم، وهم على العروة الوثقى لا انفصام لها والمحجة البيضاء ليلها كنهارها. وحسب هؤلاء أنهم أنفقوا أموالهم وأضاعوا جهودهم وأهدروا نفحات ورحمات أيام العيد في تربصات وأحقاد وكراهيات ومقارنات خبيثة مع المغرب، بين أكباش مستوردة نحرها جزء من شعبهم فيما ينتظر جزء آخر في طوابير الأكباش إلى غاية اليوم الثالث بعد العيد للحصول على أضحيته التي دفع ثمنها وغبن في لحمها ودمها وثوابها وأجرها. فاللهم لا شماتة في هؤلاء الحاقدين والـموتورين الذين ربتهم العصابة الحاكمة في الدولة الجارة، بكل وسائل إعلامها وتنشئتها البئيسة، على الالتذاذ والتمتع والفرح بما يعتبرونه خسارات وأزمات وانتكاسات لجيرانهم، ولو كان بمناسبة عيد التراحم والتضامن بين المسلمين، حتى ولو تطلب منهم هذا الفرح الموهوم والضيق أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة وخسارة الدين والدنيا معا، بما فيها خسارة الرهان على توفير الأضاحي الكافية، وخسارة الفرحة باحتفالية العيد، المبرأة من العيب، ومن كل ما ينغصها من مآس وأحقاد تأكل الأكباد وتعصف بالأخلاق. فهنيئا لنا العيد الذي كنا عيده عند «العالم الآخر» الموازي لعالم الدين والتضحية والتضامن، وكفى بذلك موعظة للهاربين من واقعهم المزري والشامتين في الشعوب المحترمة الوفية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق