تمرين ديموقراطي مغربي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس –
تعتبر الأزمات الطارئة والمفاجئة والصدمات القوية والأعطاب الحادثة في المسيرة التنموية والديموقراطية للدول النامية والسائرة في طريق النمو فرصة ثمينة لا توفرها ظروف الهدوء والاطمئنان والسكينة، للاستيقاظ من غفلة، أو الانتباه لمخاطر الطريق واستدراك الأخطاء، واختبار مدى صلابة ومتانة ونجاعة نموذج التدبير والتسيير وامتحان المؤسسات ومدى قدرتها على امتصاص الهزات وتأمين الأوضاع وحفظ الحريات والحقوق وإبداع الحلول، والإسراع إلى سد الثغرات والخروقات قبل اتساعها وتهديدها للمشاريع الاستراتيجية الكبرى، وزيادة الحذر واليقظة، فضلا عن مزايا أخرى عديدة للاستكشاف والاعتبار والاتعاظ، أهمها تمييز الخبيث من الطيب، والعدو من الصديق، ورفيق الطريق من قاطعه، والصادق الأمين من الشيطان الرجيم، وتبين الصالح من الطالح، وتجديد الدماء والثقة والعهد على مواصلة البناء وتحسين ظروف العمل وتدقيق الأولويات وإعادة ترتيبها، حتى إذا ما انطلقت المسيرة من جديد انطلقت بنفَس آخر أنقى وأروح وبقوة اقتراحية وإقناعية وإبداعية أجود وأحسن، وبخسائر أقل، هذا هو الدرس المستفاد من الأزمات لمن يحسن تدبير مخاطرها والاستفادة من فرصها لتحسين الأداء وتجويده، سواء تعلق الأمر بإدارة مؤسسة أو مقاولة أو الإشراف على مشروع أو بتدبير شأن عام يهم ملايين المواطنين، في ما يسمى في أدبيات التدبير والتسيير باستراتيجيات إدارة الأزمات وتدبير المخاطر.
ولعل هذا الدرس العام البليغ هو الذي استوعبته سريعا التجربة الديموقراطية والتنموية المغربية الناهضة في ما شهدته البلاد في الأسبوع الماضي من اندلاع مفاجئ لاحتجاجات عارمة حشدها جيل من المؤثرين الشباب في المواقع والتطبيقات الإلكترونية تحت شعار إصلاح قطاعي الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، حيث لم تحرك هذه الاحتجاجات الشارع المغربي وترجه رجا فحسب برفع ملفات مطلبية اجتماعية تتسع رقعتها وبنودها لتشمل دائرة أوسع من القطاعين المستهدفين بالاحتجاج، وإنما أدت مباشرة إلى تحريك نقاش عمومي في البيوت والشارع والمؤسسات ووسائل الإعلام بما لم نشهده من قبل من انفتاح على المطالب واحتضان جماعي لها، وتأكيد دعم الإصلاحات والمشاريع التنموية، ونقد شديد لأداء المسؤولين إلى حد المطالبة برحيلهم ومساءلتهم ومحاسبتهم، وبدا الأمر صحيا ورائعا في بلد يتمتع فيه الناس بحرياتهم كاملة في التعبير والحق في الاختلاف، بحيث إنه لا يمكن لأي منصف شاهد على تطورات الأحداث في المغرب إلا أن يشيد بهذا التمرين الديموقراطي والحقوقي المغربي في إدارة العقلاء والحكماء للأزمة ورفع التحديات والانخراط في نقاش سياسي، بل ودستوري كذلك، واسع يشارك فيه فاعلون سياسيون إلى جانب مؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، تسنده تحليلات وقراءات الخبراء من رجال القانون والاقتصاد والاجتماع لمظاهر الأزمة وأسبابها وسبل الحل، كما أبدت الحكومة كثيرا من المرونة والتفهم لمطالب المحتجين واعتراف عدد من وزرائها ومسؤوليها بواقع الفشل وسوء التدبير في القطاعات التي يشرفون عليها، رغم ضعف تواصلها وتخبطها في تأطير تدخلاتها، وتهافت حجتها عند تبرير الاختلالات في تدبيرها لرهانات الدولة والمجتمع على إصلاح منظومتي الصحة والتعليم، وانزلاق بعض الوزراء المحسوبين عليها إما في خطاب شعبوي هارب من تحمل المسؤولية، أو في خطاب إنكاري للاختلالات ومتجاهل لجذور الأزمة مكذب للواقع المتردي مستفز لعموم المواطنين فضلا عن المحتجين.
لقد تحولت هذه الأزمة في ظرف اندلاعها وبُعيده مباشرة إلى محرك دينامي داخلي للتغيير، وفتحت الأبواب على مصراعيها ليس فحسب للتنفيس عن ذوي الحاجات والمطالب وفسح المجال للتعبير عنها، وطلب جواب الحكومة ورد فعلها وإرغامها على حضور جلسات الحوار والمساءلة، ودفعها إلى اتخاذ إجراءات فورية واستعجالية لتحسين وتجويد الخدمات في القطاعات الاجتماعية المتضررة من سوء التسيير والتدبير، وأتاحت فرصا عديدة للتواصل والتداول في الشأن السياسي الوطني بكل حرية وديموقراطية وشفافية، نرجو أن يستعيد خلالها المشهد السياسي الوطني تعافيه، وأن تتاح فيه لكل المبادرات والاجتهادات خصوصا الصادرة عن الفعاليات الشبابية، ظروفا أفضل للتمرن الديموقراطي على التدافع السياسي والمجتمعي والثقافي ونزع فتائل التوترات، من أجل خدمة هذا الوطن والحفاظ على مكتسباته وتحصين جبهته الداخلية من اختراقات المغرضين وذوي الأجندات التخريبية الذين كشفت الأزمة الواقعة أقنعتهم وأسقطتها، وعرت فرحتُهم وسعادتُهم ومباركتُهم لبعض الانفلاتات والأعمال الإجرامية عن مخططات كامنة لاستهداف استقرار وأمن البلاد ومشاريعها التنموية الناجحة التي وجهوا المحتجين إليها لإسقاطها باسم حق أريد به باطل هو أولوية الخدمات الاجتماعية على البنى التحتية النهضوية التي مثلوا لها ببناء الملاعب لاحتضان كأس العالم، والقصد تدمير النجاحات في قطاعات عاملة ومنضبطة ومنتجة ورائدة، بذريعة أن ثمة فشلا وإخفاقات في قطاعات أخرى هي الأهم بالنسب للمواطنين وللمحتجين منهم خاصة على تردي الخدمات، ولو كانت نية هذا الخطاب المندس حسنة وأمينة، وهو الخطاب الذي ركزت عليه دوائر الإعلام المعادي والاستعماري، لَطالَب بأن يكون العمل في قطاعي الصحة والتعليم بنفس مستوى العمل الناجح في قطاعات أخرى تعتبر قاطرة النجاحات في بلادنا، لا أن يدعو الداعون إلى إلحاق الناجح بالفاشل حتى يعم الإخفاق سائر القطاعات ويستوي الجميع في التعثر والخسارة.
إننا في المغرب أمام امتحان ديموقراطي مؤسساتي ستجتازه لا محالة بلادنا بنجاح، بحكم تمسك الجميع بثوابت الأمة ورموزها ومقدساتها، وإيمانهم بدولة المؤسسات والحق والقانون، وباعتبار انفتاح الدولة على الحريات، وقدرتها على تدبير الاختلاف وامتصاص التشنجات، والاستعداد البنيوي والجذري في تجربتنا السياسية للحوار وتعميق النقاش حول نموذجنا التنموي ومشروعنا المجتمعي. أما أولئك الذين يغردون خارج التاريخ والواقع المغربيين، من المحللين والمضللين في الشرق العربي أو الغرب الاستعماري، فإنهم يعتقدون أن مجرد احتجاج اجتماعي أو انفلات أمني سيسعفهم في تحقيق أمنية غالية عليهم هو إسقاط المغرب وتركيعه وتدمير مشاريعه التحررية والنهضوية وشفاء صدور قوم موتورين، وكأن مؤسسات البلاد بكل هذه الهشاشة التي تخيلوها من واقع حالهم وحال أنظمتهم. وسيكون الدرس الديموقراطي المغربي في التحدي والتصدي والإدارة الناجحة لهجماتهم ومؤامراتهم صدمة أخرى لهم تنضاف إلى صدمات الإشعاع المغربي الدائم بمنصاته الإقليمية والقارية الرائدة في التنمية والتحرير ومواجهة مشاريع الاستعمار والهيمنة.


