طنجة.. اكتشاف مقابر تعود إلى أزيد من 4000 عام يكشف تقاليد جنائزية معقدة

رشيد عبود:
تمكّن فريق من علماء الآثار المغاربة والدوليين بقيادة الباحث المغربي ”حمزة بن عطية“ من جامعة برشلونة، من اكتشاف ثلاث مقابر أثرية تعود إلى نحو 4 آلاف عام، في طنجة، مما يسلط الضوء على تعقيد وغنى التقاليد الجنائزية والطقسية التي عرفتها منطقة شمال المغرب في أواخر عصور ما قبل التاريخ.
وركزت الدراسة، التي نشرت في مجلة المراجعة الأثرية الإفريقية ”African Archaeological Review“ على ثلاثة مواقع جنائزية تضم قبورًا ميغاليثية من نوع “سيستا”، إضافة إلى نقوش صخرية وأعمدة حجرية “مينهير”، يعود تاريخها إلى ما بين 3000 و500 قبل الميلاد، أي إلى فترتي العصر البرونزي والحديدي.
ومن أبرز الاكتشافات التي وثّقها الفريق، مقبرة فريدة من نوعها في منطقة دروة زيدان، وُصفت بأنها أول قبر من نوع “سيستا” يتم تأريخه بدقة عبر الكربون المشع في شمال غرب إفريقيا، حيث بيّنت النتائج أن القبر استُخدم ما بين سنتي 2119 و1890 قبل الميلاد، وهو معطى يُعدّ بالغ الأهمية لفهم تطور الممارسات الجنائزية في المنطقة.
غير أن ما يلفت الانتباه في هذه المواقع، هو تنوع أشكال الدفن، التي تراوحت بين كهوف طبيعية وحفر أرضية بسيطة إلى قبور محاطة بألواح حجرية مرصوفة بدقة، بالإضافة إلى وجود قبور خالية تمامًا من الرفات، يُرجّح أن تكون “قبورًا رمزية” أو “سينوتافات”، ما يعكس مفاهيم رمزية وروحية كانت حاضرة بقوة في معتقدات السكان القدماء.
كما عثر الباحثون في نفس الموقع، على أدوات حجرية وبقايا عظمية متناثرة خارج الهياكل الجنائزية، ما يرجح فرضية تعرض بعض المقابر للنهب في عصور لاحقة، إذ تشمل هذه المدافن، “المدافن الصندوقية” المبطنّة بالحجارة، وهي عبارة عن حفر صخرية مغلقة بألواح حجرية، والتي تم تحديد عمر إحداها عبر تحليل الكربون المشع ليعود إلى نحو 2000 سنة قبل الميلاد، مما يعد أول دليل زمني دقيق لمدفن من هذا النوع في شمال غرب إفريقيا.
وتعزز النقوش الصخرية المتناثرة واصطفافات الأعمدة الحجرية التي تم توثيقها، الفرضية القائلة بأن المنطقة كانت مركزًا طقوسيًا بارزًا، متصلًا بمسارات تجارية وربما دينية، ما يجعل من شمال المغرب أرضًا نابضة بالتاريخ وفاعلة في شبكات تفاعل ثقافي أوسع.
وتؤكد هذه الاكتشافات، وفقًا للباحثين، أن شمال إفريقيا لم يكن مجرد منطقة هامشية في العصور القديمة، بل كان مهدًا لحضارات محلية غنية، ساهمت في إنتاج وتداول رموز ومعارف معقدة، في استقلال عن أي تأثيرات استعمارية لاحقة.
كما تبرز الدراسة استمرارية هذه الممارسات الجنائزية في طنجة حتى نحو 400 قبل الميلاد، مما يعكس استقرارًا ثقافيًا واجتماعيًا في المنطقة مقارنة بجيرانها شمال البحر، حيث تراجعت هذه الطقوس في جنوب أيبيريا لصالح حرق الجثث في الألفية الثانية قبل الميلاد.
كما سلطت الدراسة الضوء على أهمية الفن الصخري في المنطقة، مشيرة إلى أوجه تشابه واضحة بين الرسومات المكتشفة حديثًا في جبال الريف ومثيلاتها في جنوب المغرب وأوروبا الأطلسية، ما يؤكد استمرار الاتصالات الثقافية عبر ضفتي البحر منذ آلاف السنين.
وبالإضافة إلى المدافن والفن الصخري، كشفت التحليلات المكانية باستخدام نظم المعلومات الجغرافية عن توزيع منتظم لهذه المواقع على طول طرق الاتصال القديمة، مما يشير إلى وجود طقوس اجتماعية ودينية مترابطة كانت تمارس على نطاق إقليمي واسع.
ويفتح هذا الاكتشاف آفاقًا جديدة لفهم تاريخ شمال غرب إفريقيا، الذي لا يزال في كثير من أوجهه غامضًا رغم أكثر من قرنين من البحث الأثري. كما يكشف عن تفاعل ثقافي قديم مع المجتمعات الفينيقية التي استقرت في المنطقة في الألفية الأولى قبل الميلاد.
وتكشف هذه الاكتشافات الأثرية، عن أهمية طنجة كمركز حيوي للتفاعل بين إفريقيا وأوروبا والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتعكس تطورًا ثقافيًا واجتماعيًا مستمرًا في المنطقة. كما تفتح المجال لدراسة أعمق للعلاقات بين مختلف الحضارات القديمة في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط.
وحذرت الدراسة المنشورة في مجلة “المراجعة الأثرية الإفريقية” يوم الثلاثاء 12 ماي الجاري، من التهديدات المتزايدة التي تتعرض لها المواقع الأثرية في طنجة، بما في ذلك النهب والتوسع العمراني والممارسات الزراعية، داعية إلى تعزيز جهود الحماية والصون لهذا التراث الثقافي الغني.


