ردهة الفنون بمعرض مسقط الدولي للكتاب.. فضاء جامع للتعبير الفني وتجليات الإبداع

فاطمة ابوناجي / مسقط –
في سياق سعيها لتعزيز حضور الفنون وإعلاء قيم الإبداع، تنظم وزارة الثقافة والرياضة والشباب “ردهة الفنون” ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب ال29 في تجربة فنية تجمع أطياف التعبير الفني التقليدي والمعاصر، وتفتح أمام الزوار نوافذ للتفاعل مع الجمال بأبعاده المختلفة.
في فسحة مترعة بالضوء والأنغام والألوان، تفتّحت “ردهة الفنون” بمعرض مسقط الدولي للكتاب، كأنها سفرٌ إلى تخوم الجمال، تقيمه وزارة الثقافة والرياضة والشباب، فتغدو الردهة أكثر من مجرد مساحة عرض؛ لتصير وطنا مؤقتا للروح ومنفى مشتهى لعشاق الخلق والإبداع.
هناك، حيث تتلاقى 27 جهة حكومية وخاصة تحت سقفٍ واحد، يتوهج أكثر من 400 عمل فني، بين نحت ورسم وتصوير ضوئي وخط عربي، تُنشد (هذه الأعمال) سيمفونية مرئية عذبة، توازيها 61 فعالية تترنم بالموسيقى وتتماوج فوق المسارح وبين أروقة المعارض، في مشهدٍ يبدو كأنه احتفال كوني بالفن في أبهى تجلياته.
في هذا المقام، لم تعد الفنون ترفا أو مظهرا مبهجا فحسب، بل تحولت إلى خطاب داخلي يمس الكينونة، ومساحة حرة تمنح الفرد والفنان على السواء فسحة للبوح، ومتنفسًا لإزاحة الأقنعة. هنا، يعبر المبدعون عن ذواتهم بلا وسائط، وتتلاقى الأرواح عبر الألوان والنغمات والأشكال.
تتخذ الردهة هدفا ساميا يتجاوز العرض إلى الإحياء؛ إحياء الوعي الجمالي الجمعي وترسيخ الفن كضرورة في وجدان المجتمع، لا كمُنتج قابل للاستهلاك فقط. ولأن الفن لغة لا تحتاج إلى ترجمان، فقد خُصصت في الرُدهة أركان متنوعة تنسج من خيوط الخلق ورشات للرسم، وفن التشكيل، والكتابة السردية، والخط العربي، مما يجعل الزائر مشاركًا في تجربة الولادة الفنية، لا مجرد متفرجٍ عليها.
وفي ركن “ويبقى الأثر”، ينبعث الفن من ذاكرة الراحلين، ليغدو خلودًا لا يفنى. تتجلى أعمال الفنانين الراحلين، كأيوب ملنج وموسى عمر ومحمد نظام، حاضرة بكل وهجها، شاهدة على أن الإبداع حين يُزرع في التربة الخصبة للروح لا يموت، بل يورق دومًا بيننا. جلسات حوارية دافئة تعرّف الجمهور بسيرهم ومساراتهم الفنية، فتجعل من رحيلهم جسدًا لا روحًا، حيث الفن يواصل عبور الزمن من خلال منجزاتهم.
وتبلغ ردهة الفنون ذروة تجلياتها الإنسانية في معرض “أنامل الأحداث”، حيث ترتسم منحوتات ولوحات بريئة مدهشة ومعبرة أحيانا عن صدمات الأحداث بالواقع الجديد وقعتها انامل فنيان تترواح أعمارهم بين 14 و18 عامًا، احتضنتهم دار الإصلاح التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية. هؤلاء الذين كانوا يوماً أسرى ماضٍ مضطرب، وجدوا في الفن قارب نجاة، وشرفة جديدة يطلون منها على الحياة. وفي لقاء مع “رسالة الأمة”، أوضح سالم الفارسي، رئيس قسم دار الإصلاح، أن الفن كشف عن الجانب المضيء لهؤلاء الشباب، حيث قربهم من ذواتهم العميقة، وفتح لهم نوافذ على الجمال الداخلي، مؤكداً أن ممارسة الفنون قادرة على انتشالهم من دوائر العنف، وزرعهم في حدائق اللطف والمصالحة مع الذات.
ولا يقف الأمر عند حدود الفنون التقليدية، بل يتعداه إلى أفق المستقبل، حيث طُرّزت الردهة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي (VR)، لتجعل من الفن رحلةً متعددة الأبعاد، يكاد المشاهد فيها يلمس الحلم بيديه، ويستشعر كيف تتماهى الحدود بين العالم الواقعي والمتخيل.
وفي كل ركن تلتمع الهوية العُمانية، تسري في الأعمال كجدولٍ رقراق، تصوغها أنامل الفنانين المتشبعين بروح المكان، بمروياته وأهازيجه وأساطيره، فتصبح اللوحات والنُصب شهادات حية على عبقرية الإنسان العُماني في نسج المعنى من طين الأرض، ومن بوح البحر والرمل.
جاء تنسيق الردهة هذا العام مُغايرا، حسب بعض المشاركين ينبض بتجديد واضح، أضيفت أقسام جديدة، وتوسعت الفضاءات المفتوحة للمواهب، في محاولةٍ حثيثة لإعلاء شأن الفن، وتمكين المبدعين، وبث بذور الجمال في أرواح الزوار. كأنها دعوة خفية لكل فرد ليعيد اكتشاف علاقته بالفن، لا كمشاهِد محايد، بل ككائن يُبدع ويُعاد تشكيله عبر دهشة الجمال.
وهكذا، تبدو “ردهة الفنون” أكثر من مجرد حدث عابر ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب؛ فقد صارت مرآة حية تعكس احتياج الإنسان الأزلي للفن كي يفهم نفسه والعالم من حوله ومسرحا حميميا تذوب فيه المسافات بين التجربة الفنية وتجربة الحياة ذاتها.
