الأديبة الروائية والطبيبة السورية سوس حسن.. بين أوجاع الإنسان وأقدار السرد

حاورتها فاطمة ابوناجي
حين تكتب سوسن جميل حسن، لا تروي حكاية فحسب، بل تفتح نوافذ على العتمة، وتجعلنا نحدق في هشاشة الإنسان وأقداره المتشابكة. بين لغة مشرقة وتأمل عميق في مآسي الواقع، استطاعت أن تقدم سردًا يتجاوز الحكاية المباشرة ليصبح شهادة على زمن متصدّع، وسؤالًا مفتوحًا عن المصير والحرية. في هذا الحوار، نحاول أن نفهم رؤيتها للعالم، وللكتابة، وللوجع الإنساني الذي تحمله نصوصها.
سوسن جميل حسن ليست مجرد شاهدة على الألم السوري، بل هي ذاتٌ تعيد تفكيك الوجع وإعادة تركيبه في نصوص تفيض بالحس الإنساني والتأمل العميق. بين طبابة الجسد وتشريح المصير، تطرح أسئلة جوهرية حول دور الأدب في مواجهة العدم، وحول قدرة الرواية على أن تكون فعلًا تحويليًا، لا مجرد انعكاسٍ لمأساةٍ تتكرر.
أعمال سوسن حسن ليست مجرد متعة أدبية، بل هي مواجهة مع الحقائق العارية، مع الألم، ومع الأسئلة الكبرى التي لا إجابة نهائية لها. في هذا الحوار، تتجلى تجربة الكاتبة والطبيبة، حيث يلتقي وجع الإنسان مع مصائر الحكاية، ويتشابك المادي بالرمزي، والجسد بالنص، ليشكل رؤية عميقة للعالم والوجود.
بين الغربة والكتابة، تتحول التفاصيل اليومية إلى مجاز عن الانتماء والاقتلاع، حيث يصبح رمضان أكثر من مجرد شهر ديني، بل مرآة تعكس التمزق بين الذاكرة والواقع، بين الروحانية والحنين، بين الهوية والاندماج. تتحدث حسن عن كيف يعيد المنفى تشكيل علاقتها بالمقدس، وكيف يصبح الماضي أشد حضورًا في عزلة الغريب.
وفي محور آخر، تواجه السؤال الفلسفي الكبير: هل يمكن للرواية أن تغير الواقع، أم أنها مجرد شاهد عاجز؟ لكنها ترى أن الأدب ليس فقط توثيقًا، بل هو محفّز للأسئلة، وإضاءة للزوايا المظلمة في وعي الإنسان وتاريخه. بين الطب والأدب، تظل سوسن حسن تبحث عن ذلك الخط الفاصل بين المعاناة والخلاص، بين الجسد والنص، بين الجرح واللغة. تكتب لتفهم، تكتب لتشفى، تكتب لتقاوم الفناء.
المحور الأول/ رمضان في الغربة.. بين الروحانية والاغتراب
1 في زمن الغربة، كيف يختلف رمضان بالنسبة لكِ؟ هل تضاعف الروحانية في هذا الشهر أم أن المسافة بينك وبين الوطن تجعلها أكثر قسوة؟
لا شك في أن الحالة السورية جعلتنا مرتبطين بالأحداث والأخبار على مدار الساعة، خاصة في الشهور الأخيرة، إذ تدخل سورية في مرحلة ضبابية تجعل من الفرح بسقوط الطاغية مشوشًا بالترقب والقلق مما يحدث في الواقع، لذلك أرى نفسي، على الصعيد الروحي، مضطربة إلى حدّ ما.
2 في ظل الغربة، أين تجدين مكانًا لصومك وعبادتك؟ هل يعيد رمضان أبعادًا روحية مفقودة في قلب المهجر؟
للحياة في الغربة قواعدها التي لا تأبه بالغريب الوافد، خاصة إذا كان الغريب/ة يعيش في بيئة لها خصوصيتها وثقافتها، وديموغرافيتها. أعيش في برلين، في حي متعدد، إنما لا يوجد فيه عرب أو مسلمون بما يكفي لأن تكون لديهم طقوس جماعية، خاصة في هذا الشهر المبارك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عددًا من الدول الأوروبية صارت تحتفي برمضان انطلاقًا من اعترافها بأن المسلمين جزء من التركيبة الديمغرافية لشعوبها، فترى زينة في شوارع عواصمها ومدنها، كما في لندن على سبيل المثال، إذ تتزين ساحة البيكاديللي كل عام في هذا الشهر. كذلك بعض الحياء في برلين هذا يبهج النفس بالتأكيد. لم يتغير عليّ شيء هنا، بما يتعلق بالمحيط الذي أعيش فيه، لكنني اسعى إلى استنهاض الذاكرة واستدعاء مشاعر من الماضي عن طريق ارتياد وسائل التواصل الاجتماعي، والإصغاء إلى نبض الحياة هناك، على الرغم من تغير هذا النبض عن الماضي الذي يمتد إلى بدايات وعيي إلى أن غادرت.
3 هل تعتقدين أن رمضان، بما يحمله من معانٍ اجتماعية وروحانية، يصبح أكثر بريقًا في الاغتراب لأنه يحمل في طياته حنينًا للوطن والأهل؟ أم أن الغربة تزيده مرارة؟
رمضان، بما يمتلك من خصوصية تنعكس على الفرد والمجتمع، إن كان لناحية التجربة الروحية التي يعيشها الإنسان، أو لناحية الروح الجماعية والمزاج الجمعي الذي يهيمن على الناس خلاله، يجعل منه بؤرة يتجدد وهجها ودفئها كل عام، لا يصنف الأمر بالنسبة إلي بين مرارة أو بريق، هو حالة تأملّية من خلالها أفتح نوافذ في تفكيري أطل منها على قضايا الناس ومشاكلهم، هناك في بلدي حيث الجميع يعاني، وتزداد معاناته في هذا الشهر.
4 كيف تتعاملين مع التقاليد الرمضانية التي كانت جزءًا من حياتك اليومية في سوريا، الآن وأنتِ بعيدة عن وطنك؟ هل تستطيعين الحفاظ عليها أم أن الغربة تعيد تشكيل علاقتك بشهر رمضان؟
الغربة تعيد تشكيل كل شيء لدى الغريب، يرى الغريب نفسه وسط محيط لديه منظومة حياة تراكمت تاريخيًا وهو لم يساهم فيها، ليس جزءا منها، بل يُمضي زمنًا مفتوحًا في محاولة فهم المحيط الجديد الذي يعيش فيه، والاندماج معه. هذا أمر ضروري، لكن لكل فرد تجربته الخاصة، وهي على علاقة بالمحيطين به ممن ينتمون إلى ثقافته وذاكرته، فقد يشتركون معًا في رسم عالم موازٍ يخصهم يتصادى مع عالم أمسهم، أما في حالتي الشخصية فهي شديدة الخصوصية، إذ أعيش، كما اسلفت، في حي كبير ومساحته شاسعة، لا يوجد فيه كثير من السوريين، ولم أستطع تكوين حياة اجتماعية تخصني، لذلك يمكن القول إنني أعيش في شبه عزلة، عزلتي هذه تجعل من الذاكرة حاضرة دومًا في وجداني. أحيانًا، وإذ أستغرق في تفكيري، أكاد أشم روائح الأطباق السورية التي كانت تعبق في الجو قبيل ساعة الإفطار، وأكاد اسمع الضجيج الذي يسبق لحظة يصدح فيها أذان المغرب، ثم صوت مدفع رمضان، الذي كان تقليدًا لم تغيره أو تغيّبه الحداثة وأدوات التوقيت الكثيرة، بل صار جزءًا من ذاكرة مترعة بالشجن. في لحظات المغرب هنا، أحيانًا أحنّ إلى سماع صوت الأذان من مسجد أمية الكبير في دمشق، كنت أحبه جدًا، وهو ما كان يسبق الإعلان عن موعد الإفطار في الإذاعة والتلفزيون السوريين.
5 هل يمكن لروحانية رمضان أن تكون ملاذًا روحيًا في عالم الاغتراب الذي غالبًا ما يتسم بالانفصال عن الجذور؟ وهل تجدين أن رمضان في المهجر هو أداة لحفظ الهوية؟
مثلما أسلفت، لا يمكنني الحكم على هذا الأمر بسبب تجربتي الخاصة، لكن يمكنني القول، ومن خلال زياراتي إلى “شارع العرب” في برلين، إن طقوس رمضان تعيد تشكيل نفسها هناك، هذا يدلّ على أن الشهر وطقوسه، إحدى أدوات التمسك بالهوية لدى الغالبية من السوريين والمسلمين هنا.
6 كيف تنظرين إلى العلاقة بين الإيمان الشخصي والروابط الاجتماعية التي يرتبط بها شهر رمضان في وطنك، وكيف يتم تجسيدها في الغربة؟
زمانًا، كان رمضان وعيد الفطر الذي يأتي بعده فرصة يتمسك بها معظم الناس من أجل إحياء القيم والفضائل، فيسعون إلى تجاوز الخلافات والتسامح، والتشارك في تجربة الصيام والإفطار والزيارات، واللهفة إلى المساعدة، فتبرز علامات التكافل الاجتماعي والرحمة بين الناس، هذا له علاقة مباشرة بالإيمان والدين بفطرته السليمة. لا أعرف حجم تمثّل هذا الواقع بين السوريين في الغربة، فأنا بعيدة في معتزلي عن هذه الأجواء، يؤسفني هذا الوضع، لكن ظروفي حكمت علي به، لكنني أرى أن من الطيّب إحياء هذا النزوع الجماعي الذي اعتاد عليه السوريون.

المحور الثاني/ الكتابة كفعل مقاومة.. هل الرواية قادرة على مواجهة العدم؟
7 كتبتِ عن الحرب والخراب، عن المرأة والانتهاك، عن القمع والمقاومة، لكن هل تعتقدين أن الرواية قادرة حقًا على تغيير الواقع، أم أنها مجرد شاهد عاجز أمام المأساة؟
للرواية فعلان، على ما اخمّن، واحد له علاقة بالكاتب، وآخر له علاقة بالقارئ.
بالنسبة إلى الكاتب أو الأديب هي نشاط حيوي، تفاعل مع القضايا والأمور التي تمور في الواقع ويقع تحت تأثيرها الكاتب كإنسان، أو فرد من مجموع، هي رجع صدى الواقع في أعماقه، وبالتالي يمكن عدّها كمحرّض على الأسئلة ودافع للبحث عن إجابات، بالطبع لا يسعى إلى الإجابات القطعية، بل مجرد عملية الكتابة يشكّل لديه حالة من الرضا الروحي والوجداني أمام ضغط الواقع وتعقد الأسئلة.
أما بالنسبة إلى القارئ، فهي تفتح في وعيه نوافذ أخرى على العالم، بل وتساعده في فهم نفسه، فهم واقعه وماضيه، ومحاولة ممارسة النقد الذاتي. بهذا المعنى يمكن القول إن الأدب عمومًا، والرواية بشكل أكثر تخصيصًا، يمكن أن تساعد في تبلور رؤى وأفكار تساهم مع الوقت في محاولة تفكيك الواقع والانقلاب عليه من أجل البناء الجديد بما يلائم طبيعة المرحلة التاريخية وينسجم مع الحضارة الإنسانية.
8 في ظل التحولات العنيفة التي شهدها الواقع السوري، كيف تعيدين تعريف دور الكاتب؟ هل هو مجرد ناقل للأحداث، أم أنه يمتلك سلطة ما على الذاكرة الجمعية؟
نحن شهود، شئنا أم أبينا، على هذه المرحلة من تاريخ بلدنا، علينا واجب نقل ولو جزء من الحقيقة إلى الأجيال القادمة، قد لا تكون “حقيقة” بكل معنى الكلمة، فالحقيقة مفهوم إشكالي، إنما صورة أقرب ما تكون من الموضوعية والنزاهة عمّا كان يجري، بعيدًا عن الاستقطاب والتسييس والإيديولوجيا، خاصة بما حملت المرحلة من أشكال متنوعة من التضليل الإعلامي والأجندات المتناقضة والمتصارعة، ما أدى إلى انقسام المجتمع السوري، وتجييشه بعضه ضد بعضه الآخر.

10 حين ينهار كل شيء، هل يبقى للكتابة معنى؟ أم أن الكتابة في الأوقات العصيبة فعلٌ عبثي لا طائل منه؟
التاريخ يتصف بالحركة، لا يتوقف، ليس هناك انهيار لكل شيء ما دام أن الشعوب حيّة، وحتى لو تعرّضت الشعوب لأهوال كبيرة، مثلما جرى للشعب السوري، فإن تنهض من جديد، هذا منطق الأشياء، وحركة التاريخ، لذلك فإن الكتابة فعل لا بد منه، فعل حيوي مواكب للتحولات الكبرى، ويستمر في أي مرحلة.
10 شخصياتك غالبًا ما تكون في مواجهة مصائر قاسية، هل ترين أن الأدب ينبغي أن يكون انعكاسًا للواقع، أم أنه يجب أن يفتح نافذة للأمل؟
الأدب عمومًا، والرواية خصوصًا لا يقدم وصفات جاهزة، هو يعرض ما لديه، يصنع واقعًا موازيًا للواقع الفعلي، يطرح إمكانية وجود احتمالات أخرى للحياة، ربما يستطيع الأديب، بخياله، ان يشكّل عالمًا يحمّله مصابيح إنارة، أو فلاشات، تضيء الزوايا المظلمة التي لا يراها الأفراد في الواقع في أثناء غرقهم بتفاصيله.

المحور الثالث/ بين الطب والرواية.. من ينقذ الإنسان؟
11 كونك طبيبة وروائية، كيف ترين العلاقة بين الجسد والنص؟ هل ثمة قواسم مشتركة بين تشريح الجسد وتشريح اللغة؟
الجسد والنص كائنان إنسانيان، وإذا كان الجسد الإنساني يتحقق فيزيائيًا باحتلاله حيزًا من الوجود المادي، فهو يتكون من بنى نفسية ومجازية أيضًا، كذلك جسد النص، فهو كائن لغوي، إنما كائن على علاقة لصيقة بالإنسان، فلولا وجود الإنسان ما كان للنصوص اللغوية من وجود. يتعامل الطبيب مع الجسد البشري كوحدة عضوية لديها ما تشتكي منه، ولديها هواجسها وأحلامها، كذلك النص اللغوي، يتلاقى الاثنان حول الإنسان، همومه، أوجاعه، وجوده، كينونته، فلسفته، هواجسه، كل ما يتعلق بالحياة وصونها وتحفيزها كي ترتقي بما هو لائق بالإنسان.
12 في عملك الطبي، تواجهين الألم اليومي في شكله العاري، فهل تساعدك الكتابة في التخفيف من وطأة هذا الألم، أم أنها تعيد إنتاجه في صور أخرى؟
في لحظة الكتابة، يكون الألم في أوجه، يستبيحني ويرميني في موقف التحدي، فيحفز مشاعري وعواطفي وأفكاري، ما يرشح إلى نصوصي منه هو خلاصة تجربة الألم، فتجربة الألم في الواقع بحد ذاتها تجعل من الإنسان أكثر انتباهًا وفعالية في التعامل مع ألمه، هناك ممارسات متنوعة في الواقع نقوم بها في لحظة الألم تجنح غالبًا إلى الهدنة معه وفهم آلياته وكيف يمكن السيطرة عليه أو التعايش معه, ريثما يتدخل الطب في تشخيص مسبباته واقتراح الحلول العلاجية، ليصبح بعدها الألم تجربة ترسخ في الذاكرة بحمولتها المادية والروحية، والمفاهيم التي اكتسبها الفرد من خلال ألمه. كذلك هي الكتابة، في جانب منها هي فعل خارج الوعي أو الوعي الهادف، في جزء منها هي تجربة عقل باطن بكل اتساعه وعمقه وآفاقه.
13 هل يمكن للرواية أن تكون شكلًا من أشكال العلاج النفسي لكاتبتها؟ وهل شعرتِ يومًا أن الكتابة أنقذتك من وجع شخصي أو وجودي؟
ربما يحمل السؤال السابق جزءًا من الإجابة، نعم، الكتابة تخفف من ألمي، على الأقل في لحظة الكتابة، ربما لذلك تصبح الكتابة حاجة يومية بالنسبة إلى الكاتب.

المحور الرابع/ المرأة في عوالمك السردية.. هل الكتابة انتقام رمزي؟
14 النساء في رواياتك شخصيات معقدة، متمردة، تقف في مواجهة السلطة الذكورية والمجتمع، هل يمكن اعتبار كتابتك شكلًا من أشكال المقاومة النسوية؟
ليس بهذا المعنى الضيق، فأنا في الواقع مارست هذه المقاومة، على الأقل بما يخصني امرأة، وبما يخص تربيتي لابنتي وابني، لم أهرب من تحديات الواقع، بل واجهتها، لكنني لم أغفل عن حقيقة أن النساء في بلادي يعانين بما يكفي من السلطان الاجتماعي والديني والسياسي، القائم على الثقافة الذكورية، لذلك كانت المرأة حاضرة في مجمل نصوصي، بكل مجالات معاناتها، ليس كامرأة فحسب، إنما كمواطنة يصيبها ما يصيب الآخرين من جور الأنظمة وقمعها وعلاقة هذه المعاناة بالقيم السائدة، وجعلت من شخصياتي النسائية تبحث عن هويتها الإنسانية وتحطم القالب النمطي المحصورة بداخله.
15 في “اسمي زيزفون”، تعيش البطلة في صراع مع التقاليد والاستلاب، هل كان خلقها محاولة لتجسيد صورة المرأة المثالية التي تتمنينها في الواقع؟
كانت المرأة التي أريدها ان تفهم محيطها وتاريخ بيئتها كي تستطيع الإجابة على أسئلتها، وفي الوقت نفسه أن تكون صاحبة إرادة تدفعها لأن تكون ذاتها وتتحدى كل المعوقات التي توضع في وجهها.
17 لماذا الشخصيات النسائية محاصرة بين رغبتها في التحرر وقسوة الواقع؟ هل هذا تعبير عن مأزق المرأة العربية في العصر الحديث؟
ليس مأزق المرأة فحسب، إنما مأزق الشعوب بمجملها، بكل مكوناتها، هو ليس مأزقًا بقدر ما هو قضية وهدف وغاية، فالإنسان، في لحظة وعيه وإدراكه كينونته الإنسانية وما يمارس بحقها من اعتداء وانتهاك، يسعى إلى تغيير واقعه وتحطيم قيوده وانتزاع حقوقه والدفاع عن كرامته، ولكون المرأة تعاني أكثر من غيرها في مجتمعاتنا بسبب الثقافة السائدة المتراكمة تاريخيًا، وضيق حقوقها القانونية، فإن نضالها يبدو أكثر صعوبة ومشقة.
17 هل ترين أن الأدب العربي أعطى المرأة حقها في التمثيل الروائي، أم أنه لا يزال أسير القوالب التقليدية للصورة النمطية؟
ما زال الأدب يحاول، وهناك كثير من الأدباء والأديبات ناصروا المرأة وسلطوا الضوء على إنسانيتها المنتهكة وحقوقها المنتقصة، لكن هذه المهمة طويلة الأمد ويلزمها وقت حتى ترسّخ تأثيرها في الوعي الجمعي. إنصاف المرأة وتفعيل دورها في المجتمع واحد من أهداف الثورة المنشودة التي تحتاج إليها شعوبنا، والثورة لا تحدث في الأدب، بل يمهد الأدب الطريق إليها، بل يمكن القول إنها تحدث في الأدب قبل الواقع. لذلك فالمشوار ما زال طويلًا على الرغم مما قُطع فيه من مسافة.

المحور الخامس/الرواية والتاريخ. هل الأدب يعيد كتابة الحقيقة؟
18 في ظل هيمنة الرواية على المشهد الثقافي، هل يمكن اعتبارها بديلاً عن التأريخ الرسمي للأحداث، خصوصًا في مجتمعات تشوه ذاكرتها الحروب والسياسات؟
الرواية لا تقدم بديلًا عن التاريخ الرسمي، إنما تنير الزوايا المظلمة، ربما تظهر جانبًا من جوانب الحقيقة الغائبة أو المغيبة، وتنير الوعي، فتدفع إلى التفكير، تفكير عامة الناس بواقعهم، بل حتى بماضيهم، وتجعلهم يقفون ويتأملون ذاتهم وتجاربهم. هذا هو دور الرواية.
19 ما الفرق بين أن يكتب التاريخَ المؤرخُ، وأن يكتبه الروائي؟ هل تعتقدين أن الرواية تمنح التاريخ بعدًا أكثر إنسانية مما تفعله الوثائق؟
الرواية ليست وثيقة تسجل التاريخ، ربما تصلح وثيقة أو شاهدًا بالنسبة إلى الدارسين، عن واقع ما في زمن ما، إنما لا تستطيع أن تحلّ محل التاريخ كفرع من فروع النشاط البشري، لكنها تستطيع أن تقدم الشواهد التي تبطل ادعاءات المؤرخين فيما لو وجد تضليل ما.
20 بعد سنوات من الأزمة السورية، كيف تنظرين إلى دور الأدب في الحفاظ على الذاكرة الوطنية؟
هذا متروك للزمن، لا ننسى إشكالية الحالة السورية وتعقيداتها، وأن السوريين انقسموا على عدة محاور، وكان الأدب ينتج في كل مكان، وتحت ضغط الحالة السورية، هناك من كتب وهو ما زال تحت سيطرة النظام الساقط، وهناك من كتب وهو تحت سيطرة الفصائل الأخرى. هناك من كتب وهو في الداخل، ومن كتب وهو في الخارج، لذلك فإن المهمة ستكون صعبة بالنسبة إلى القراء والنقاد، مهمة تفكيك الخطاب الروائي بكل تفصيلاته، واستخلاص المشترك.
لا بد أن هناك مشتركًا ما، هذا هو ما سيؤسس للذاكرة السورية، إنما بعد زمن طويل. فما زالت الهزات الارتدادية تهدد المجتمعات السورية، وما زالت الأمور لم تستقر.

المحور السادس/ سؤال المنفى.. هل يكتب الإنسان عن وطنه حين يبتعد عنه؟
21 بعد انتقالك إلى برلين، كيف ترين علاقتك بسوريا؟ هل يزيد المنفى من وضوح الرؤية، أم أنه يجعل الوطن مجرد ذكرى بعيدة يصعب استعادتها؟
في عصرنا الحالي، عصر الثورة الرقمية والاتصالات، لم يعد هناك مكان بعيد وآخر قريب، كنت، كغيري من السوريين، على تماس دائم بالواقع السوري، ولو عن بعد، نتابع الأخبار، نتواصل مع أهلنا وأصدقائنا ممن بقوا في الداخل، أحاول أن أفكك الواقع، وأكتب، لكن في جانب ما من نفسي يوجد حزن ما، إنه عالم أمسي الذي رأيته ينهار يومًا بعد يوم.
22 هل يستطيع الكاتب أن يكون موضوعيًا تجاه وطنه حين يبتعد عنه، أم أن المسافة تغذي الحنين وتغشي البصيرة؟
الموضوعية، أو الحيادية أمر في غاية الأهمية بالنسبة للأديب، فالكتابة لا تصحّ تحت أي ضغط، الكتابة وليدة الحرية، أي التحرّر من أي انتماء أو استقطاب، إلّا إلى الإنسانية بشموليتها. وهذا أمر ضروري للأديب، ويحتاج إلى وعيه بمسؤوليته في أثناء الكتابة وبواجبه في أن يتحدى ضغط عواطفه ومشاعره.
23 هل أثّرت تجربتك في العيش خارج سوريا على أسلوبك في الكتابة؟ هل تغيرت ثيماتك السردية بسبب تجربة الاغتراب؟
المجال مفتوح أمام الكتابة، ما زلت إلى الآن أكتب انطلاقًا من محنة بلادي، إنما تسرّبت حياة الغربة بعض الشيء إلى كتاباتي، هناك مثلًا في روايتي “خانات الريح” موضوع له علاقة بالعيش في مجتمع آخر له تاريخه ومنظوماته الثقافية والمعرفية، طرحت فيها موضوع وعي الذات والعالم، والعلاقة بين السوري والغربي، وكيف يمكن أن تكون لتصبح منتجة للقيم ورافدة للحضارة الإنسانية.

المحور السابع/ الرواية والتصوف – هل الكتابة شكلٌ من أشكال العرفان؟
24 في رواياتك مسحة تأملية عميقة، وكأن هناك بُعدًا روحانيًا يتجاوز الماديات، هل تستلهمين شيئًا من الفكر الصوفي في كتابتك؟
الكتابة بالنسبة لي تجربة روحية بالدرجة الأولى، فهي تساعدني في السير في دروب الحياة المتنوعة والمتشابكة، تبهجني دهشة التأمل كلما ومضت في بالي فكرة ما أو سؤال يبدو مثلما لو أنني اكتشفه للمرة الأولى. في الكتابة أجد متعة كمن يفك لغز متاهة ما، ثم يبحث عن متاهة أخرى.
25 هل يمكن اعتبار الكتابة نوعًا من العروج الروحي، حيث يحاول الكاتب أن يقترب أكثر من جوهر الحقيقة؟
هي في كل الأحوال حالة روحية، عندما يكتب الأديب لا يكون هدفه الوصول إلى الحقيقة، إنما تفجير الأسئلة، فالحقيقة قضية إشكالية، وفكرة غاوية، غوايتها في السعي نحوها مع بقاء المسافة بينك وبينها ثابتة، لا تقصر.
26 هل تشعرين أن الرواية يمكن أن تكون وسيلة لفهم ألغاز الوجود، أم أنها مجرد محاولة عبثية لالتقاط ما لا يمكن القبض عليه؟
هي محاولة، إنما ليست عبثية، هي حالة تأمل واستكشاف وكشف، هي طرح الأسئلة، من دون الوصول إلى يقين، إنما متابعة السير في درب الألغاز والدهشة. هنا المتعة بحد ذاتها.

المحور الثامن/ ختاما .. هل لديك يقين ما؟
27 بعد كل هذه التجربة الطويلة في الحياة والكتابة، هل وصلتِ إلى يقين معين، أم أن الشك لا يزال رفيقك الدائم؟
بطبيعتي أرفض اليقينيات والمسلمات، فالمعرفة وليدة الشك والسؤال.
28 هل هناك سؤال ما زلتِ تكتبين بحثًا عن إجابته؟
لا أستطيع حصر أسئلتي، فهي تتناسل من بعضها بعضًا، خاصة وأن طبيعة العصر هي التغيرات السريعة.
29 لو كان عليك أن تلخصي رؤيتك للحياة في جملة، ماذا ستكون؟
الحياة جميلة، غاوية، وعمر الإنسان قليل مهما طال، لذلك علينا احترامها والغوص في أسرارها وحبّها.