قضايا وآراء

من الآن فصاعدا

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

كان يكفي فرنسا، وقد حسمت في اختيارها الجواب عن المطلب المغربي بالوضوح، أن تقتصر في جوابها على عبارات تفيد هذا التوضيح من قبيل الاعتراف بالوحدة الترابية للمغرب وبسيادته على أقاليمه الجنوبية، ودعم مقترح الحكم الذاتي بوصفه الحل الوحيد والأمثل للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، على غرار ما فعلته دول وازنة أوروبية وأمريكية وعربية تربطها بالمغرب علاقات صداقة متينة وشراكة قوية وعميقة، إلا أن منطق الدولة الفرنسية الذي راهن أكثر، ليس فحسب على مجرد الاعتراف المحدد والمطلوب، بل على مزيد من تطوير الموقف الفرنسي النهائي والواضح من منظومة العلاقات القوية والصداقة المتينة مع المغرب، وذلك بإيراد تفاصيل في غاية الأهمية القانونية والديبلوماسية التي من شأنها فتح صفحة جديدة ومبهرة في العلاقات مع المغرب تترجم بالفعل قرار الاعتراف بمغربية الصحراء إلى إجراءات عملية، وإلى استثمار حقيقي في الثقة والمصداقية، وفي الرصيد التاريخي للعلاقات بين الشعبين الفرنسي والمغربي، بما يعود بالنفع على البلدين وعلى مصالحهما الاستراتيجية المشتركة في ضفتي المتوسط، بل وعلى الأمن الإقليمي والدولي لشعوب المنطقة بأسرها.

لقد فهمت فرنسا جيدا مطلب المغرب بالوضوح في ارتباطه بالأمن القومي والدولي، وبما تشكله سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية من صمام أمان في المنطقة، ضد مخططات التقسيم والعدوان، ومن ضمانات لتحرير المنطقة من الجمود والعقم في المبادرات، وكذا تحرير القرارات الدولية والديبلوماسية من التوتر الدائم ومن مخاطر التهديدات المتلاحقة بسبب استمرار الانحباس في ملف النزاع حول الصحراء، واستقطاب هذا النزاع لكل عوامل الاستفزاز والتطاول، بل ولكل النوايا المبيتة للإساءة للدور المحوري للمغرب في توطيد دعائم الاستقرار والتنمية والتعاون وتبديد الخلافات الإقليمية على أساس الحوار والتفاهم والتفاوض، وبحث الحل الممكن لنزاع طال أمده، وطالت تداعياته السلبية على العلاقات بين الدول والشعوب، فقط لأن دولا لم تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والديبلوماسية في رعاية السلام وكف العدوان، وتنزيل القرارات الحاسمة والحازمة الملزمة للطرف المتعنت الذي لا يزال يأمل حالما وضد منطق التاريخ والجغرافيا في اقتطاع جزء غال من التراب الوطني المغربي، وإنشاء كيان وهمي دخيل عليه وغير قابل للحياة.

إن رسالة التهنئة والاعتراف التي وجهها رئيس الدولة الفرنسية إلى جلالة الملك، تحمل عبارات تتجاوز الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء، إلى تخطيط سبل لتكريس هذا الاعتراف عمليا عبر إجراءات دقيقة وقوية، لم يكن مطلوبا من الجانب الفرنسي أن يضمنها في الرسالة، وكان بالإمكان ترك هذه الزيادات والتفاصيل والاحتفاظ بها إلى حين الزيارات واللقاءات المرتقبة بين قيادتي البلدين وفعالياتهما الحكومية، لكن اختيار تضمينها في رسالة الدولة الفرنسية، وليس فحسب رسالة الرئيس الفرنسي بصفته الشخصية أو السياسية، وبصيغ قانونية وديبلوماسية راقية كتبت بقلم خبير وعارف ومتمرس في قواعد مخاطبة دولة عريقة لأخرى أعرق في العمل السياسي والديبلوماسي، تنم عن رغبة أكيدة للدولة الفرنسية في تأمين العلاقات المغربية الفرنسية من أي صدمات أو كدمات أو اهتزازات في المستقبل، والقطع الصريح مع أساليب قديمة وفاشلة في التحريض والتآمر الخفي والتشهير والابتزاز التي نهجتها لوبيات فرنسية مؤثرة، استغلت غموض وغفلة الدولة الفرنسية عن علاقاتها ومصالحها مع المغرب للمتاجرة في الأزمات والتربح من تدهور العلاقات.

اليوم إذ تدرك الدولة الفرنسية ومن خلال الرسالة التي بعثها رئيس الجمهورية إلى جلالة الملك، حجم التحديات والرهانات والمصالح المعطلة بين البلدين، فإنها تسارع الخطو لتدارك ما فات، والتعهد بعدم تكرار سيناريوهات العبث بمصالح الدولتين، وتقديم ضمانات للسير قدما في مسارات التنمية والشراكة واحترام السيادة، من خلال اتخاذ إجراءات عملية مستعجلة على رأسها تعميم قرار الاعتراف بمغربية الصحراء، والتحرك في انسجام تام معه على الصعيدين الوطني الفرنسي والدولي الأممي، وفي انسجام تام أيضا مع التوافق الدولي المتسع على مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كأفق شرعي وذي مصداقية وواقعية لحل نهائي وشامل للنزاع المفتعل حول الصحراء.

وتعبر الجملة الصريحة الواردة في نص رسالة الرئيس ماكرون، ليس فحسب على وضوح الموقف الفرنسي، بل على قوته أيضا وحسمه وحزمه، وهي الجملة القاضية بأن مخطط الحكم الذاتي “يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”، فمن الآن فصاعدا تعني بالنسبة لصاحب الإعلان والقرار أنه تم نسخ كل ما سبق من مناورات وصيغ غامضة، وأن مجال المناورة بات أضيق من أن يستوعب التحولات الجارية في اتجاه الإقرار حاضرا ومستقبلا بأن الحل الوحيد وفي الإطار الأممي الحصري هو للحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية تحت السيادة المغربية، وأن فرنسا من الآن فصاعدا ستشتغل من موقعها الأوروبي ومن موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومن موقع مسؤوليتها التاريخية السابقة في المنطقة المغاربية وفي غرب إفريقيا، على إقرار الحق المغربي الشرعي في تحرير الأرض وتنمية الأقاليم المسترجعة، وعلى انخراط فرنسا في دعم ومواكبة المغرب في مشاريعه البناءة والرائدة لفائدة الساكنة بهذه الأقاليم، بما في ذلك             توقيع اتفاقيات شراكة واستثمار تشمل الصحراء المغربية، وبما لا يدع مجالا للشك في صدق النوايا الأوروبية ونوايا المجتمع الدولي في جعل الصحراء المغربية همزة وصل، وعربون صدق الصداقات وعمق الشراكات في العلاقات المغربية القارية والدولية.

  الإقلاع عن الإساءة وكف الأذى هو مضمون عبارة: “من الآن فصاعدا” بطابعها الحاسم والحازم، فمن الآن فصاعدا ليس مقبولا على وجه الإطلاق استمرار المؤسسات واللوبيات الفرنسية المدعومة من جهات معادية للمغرب في التحرش ببلادنا باسم نزاع الصحراء العالق، ومن الآن فصاعدا لا مكان للحملات الإعلامية التشهيرية الممولة، ولا مكان للغموض في المواقف الفرنسية الداعمة لمغربية الصحراء، والعاملة على ترجمة هذه المواقف في سلوكات ديبلوماسية وقرارات متوافقة مع منطق الدولة الفرنسية الحديثة والمتقدمة، لا مع منطق الاستعمار والعصابة الظلامية الابتزازية الحاكمة في الجزائر. ولئن جاء الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء متأخرا كما صرحت بذلك زعامات سياسية فرنسية، فإنه بالنسبة للمغرب المرابط على ثغوره والمدافع عن حقوقه الشرعية في ترابه الوطني، أن يأتي هذا الاعتراف متأخرا وفي ظرفية من التحولات الإقليمية والدولية الكبرى خير من ألا يأتي أصلا، وخير من أن تتمادى السياسة الخارجية الفرنسية في خسارة حليف وازن وموثوق، وأن تستمر في مزيد من النزيف ومن الغموض المضر بمصالحها مع خيرة شركائها الصادقين والموثوقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق