من الأقصى إلى الأقصى
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
في غمرة أجواء العشر الأواخر الرمضانية المباركة التي حفت بها أعمال البر وخير العمل والدعاء، ومن غير بهرجة إعلامية ولا دعاية مجانية ولا حتى تسويق مناسباتي لشعارات عابرة، قام وفد من العلماء المدعوين والمشاركين هذه السنة في الدروس الحسنية من مختلف الدول الإسلامية الشقيقة بزيارة لوكالة بيت مال القدس الشريف برباط الفتح للاطلاع على الحصيلة المدققة والمرقمة لمجموع التدخلات الإيجابية الملموسة والعملية وعلى الأعمال والمنجزات غير المنقطعة والمتواصلة الحلقات، التي قامت بها وكالة بيت مال القدس الشريف التابعة للجنة القدس التي يرأسها جلالة الملك، لفائدة المقدسيين وعموم الفلسطينيين، وفي عز الأزمة التي تشهدها القضية الفلسطينية، ووسط اندلاع الأعمال العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة. وتركز العرض المصور الذي قدمه منسق برامج ومشاريع الوكالة في القدس على آخر هذه العمليات والبرامج المتزامنة مع الشهر الفضيل والمتمثلة في تنفيذ الأمر الملكي السامي القاضي بتسيير قوافل للمساعدات والعمليات الخيرية والتضامنية الملموسة مع فلسطينيي مدينة القدس وقطاع غزة الجريح.
وعاين وفد العلماء المسلمين مشاهد وصول هذه المساعدات إلى المقدسيين وإلى الغزاويين برا، ووقفوا على فصول العمليات التدخلية للوكالة مع حزمة مساعدات أخرى لفئات اجتماعية فلسطينية تعاني من الهشاشة والضعف من أمثال الأطفال الصغار والرضع وذوي الاحتياجات الخاصة، تكفل جلالة الملك من ماله الخاص بتمويلها وتغطيتها، حيث وصل برا إلى قطاع غزة في هذه العملية وحدها 40 طنا من المساعدات الغذائية، كما استفادت 2200 عائلة مقدسية من قفف غذائية كاملة، وكذا 1000 حصة غذائية يومية موزعة على دور الرعاية والأيتام ودور القرآن ومراكز الإيواء والتكايا والمستشفيات، مع إقامة موائد إفطار رمضاني بباحات المسجد الأقصى وسلوان وبيت حنينا وشعفاط وعدد من القرى المعزولة خارج الجدار، بالإضافة إلى تجهيز أقسام الطوارئ والمستعجلات بمستشفى الهلال الأحمر في القدس بمعدات وأجهزة الاتصال والمعلوميات مستشفيات، وأصناف أخرى من المواد بلغت 42 صنفا وشحنة من الأدوية استفاد منها مستشفى جمعية المقاصد الخيرية.
وهذا فقط نموذج مصغر عن ما يقوم به المغرب ووكالة بيت مال القدس بلا انقطاع لأزيد من ربع قرن على إحداث الوكالة وإطلاق أعمالها الجليلة لدعم صمود القدس والمقدسيين في وجه الاستنزاف البشري والمادي والطمس الثقافي والروحي، حيث شهدت العديد من القطاعات المتصلة ببقاء وحياة الفلسطينيين المقدسيين أعمالا جبارة لإحصاء الدور والعقارات المستهدفة بالمصادرة أو البنايات الآيلة للسقوط وتمويل عمليات اقتنائها واسترجاعها وترميمها وترميم المعالم الحضارية للمدينة، مع تمويل برامج السكن ومشاريع الحفاظ على التراث الديني والهوية الحضارية للقدس، وبرامج تحسين ظروف العيش الكريم لأهالي هذه المدينة في مجالات الصحة والتعليم والشغل والتنقل، وغيرها من مجالات الخدمات الاجتماعية والثقافية والتربوية التي دعمت بقوة إشعاع المدينة المقدسة وصمودها في وجه مخططات الاحتلال والتهويد.
وفي الوقت الذي كان يجري فيه المسار السياسي لإحلال السلام وإيجاد حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية، وكان الجميع مشغولا بتدبير محطات المفاوضات، وبمعالجة العثرات والعقبات والصعوبات، وكذا الركون لمدة طويلة إلى الجمود والتراجع في هذا المسار السياسي، مع تلغيمه بتصعيد العمليات القتالية والعسكرية الناسفة لمشروع بناء الدولة الفلسطينية، وبمزيد من عمليات ضم الأراضي وبناء المستوطنات وتخريب الممتلكات وتجريف الحقول واقتلاع الساكنة الفلسطينية من قراها ومدنها وتهجيرها، كانت وكالة بيت مال القدس ولجنة القدس تنجزان ميدانيا وبشكل ملموس مبادرات عظيمة هي التي حافظت بنسبة كبيرة على الوجه الفلسطيني والعربي والإسلامي والمسيحي لهذه المدينة المقدسة التي كادت معالمها ومناراتها وصروحها وأبراجها أن تطمس وتندثر، وتغير وتهود، وكاد أهاليها يُهَجَّرون بفعل المضايقات وجراء تجفيف منابع الحياة والبقاء والصمود في محيطهم، وبمرأى من العالم الذي لم يقدم خطوة ولا بادرة ولا خطة لإبقاء القدس بمكوناتها البشرية والحضارية والثقافية والاقتصادية والروحية صامدة وحية لا في العيان ولا في الأذهان والوجدان. وفي الوقت الذي اختار فيه أشقاء القضية والمدينة وأصدقاؤها التجول بالشعارات والهتافات والخطابات في الساحات الإعلامية لرثاء القدس والبكاء على أطلالها، أو للتعبير عن التضامن القلبي مع أهاليها، أو للدعاء على قوات الاحتلال، والتوعد بهزمها والوعد بتحرير المدينة، كانت وكالة بيت مال القدس الشريف تحرر البيوت والتكايا والزوايا والمقابر من أحكام الإفراغ أو الهدم والإزالة وتستعيدها عن طريق شرائها، وتعيد ترميمها وتأهيلها وإعمارها، وتعيد الأمل للعديد من المقدسيين الذين يعانون مضايقات وضائقات في مختلف مناحي الحياة، وذلك بجمع التبرعات والمساعدات وتوجيهها لتمويل برامج ومشاريع نوعية ومستعجلة، وفي هذا الإطار يقوم المغرب بصفة دائمة بتغذية ميزانية الوكالة وسد خصاصها، حتى بلغت نسبة مساهمته المالية فيها خلال السنوات الأخيرة 87%، وكل هذه المسارعة إلى تغطية النفقات وزيادة حجمها، ليس من أجل التباهي والمفاضلة أو المفاخرة بالأرقام، وإنما للاستجابة العاجلة للحاجيات المستمرة والدائمة والحيوية لهذه المدينة المقدسة من أجل بقائها، ولأجل خلود طابعها الروحي والديني والحضاري، وحتى لا يتوقف مسار تنموي وتحريري لا يعوض لربط المدينة المقدسة بعمقها العربي والإسلامي.
لقد ترجم المغرب بالملموس وجسد عمليا عبر رئاسة جلالة الملك للجنة القدس وعبر وكالة بيت مال القدس الشريف، التضامن الحقيقي والناجع مع الشعب الفلسطيني والدفاع الفعلي عن ثالث الحرمين الشريفين وأولى القبلتين، كما جسد أخلاقيا وإنسانيا قيم الخير والإحسان والبر الخالصة والبعيدة عن الأهواء والأغراض والأضواء والمزايدات بالمن أو بالأذى، فما أكثر الأعمال الجليلة المتشعبة والمتشابكة والمتلاحقة التي تنجز يوميا بكل هدوء وبفعالية، في مدينة القدس من قبل وكالة بيت مال القدس، لا يعلم بها إلا أهاليها المستفيدون، وتضمها مئات من صفحات التقارير عن الحصيلة السنوية المرفوعة من قبل إدارة الوكالة. فمن المغرب الأقصى الشريف إلى المسجد الأقصى المبارك يوجد جسر روحي مفتوح لا يتوقف نشاطه وإمداده ولا يحتاج إلى هتاف أو شعار للإعلان عنه أو إبرازه وتجديد عهوده، فثمة باب المغاربة وأوقافهم هناك شاهدان على عمق هذه الرابطة المغربية الفلسطينية الوثيقة التي تعلو على السياسات وترتفع على المصالح والتجارات والحسابات الضيقة.