أصوات الحكمة وفحيح المزايدات
بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
توحد القضية الفلسطينية كل العرب والمسلمين وسائر أحرار العالم من دول وشعوب وأفراد من مختلف الأعراق والأجناس والأديان والمذاهب والطوائف، لأنها بكل بساطة ومنطق قضية إنسانية عادلة ومشروعة، وقع فيها توافق وتواطؤ للنوايا الخيرة للمجتمع الدولي ولمؤسساته الأممية على حلها حلا عادلا وشاملا ودائما ونهائيا منذ أواخر القرن الماضي، حيث قضت بشأنها بحل سياسي يمكن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على ترابها الوطني عند حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هذا هو المتوافق عليه عربيا وإسلاميا ودوليا. ولا بديل عن هذا التوافق، و”مخطئ من يظن أن منطق القوة يمكنه تغيير هذا الواقع” كما في خطاب جلالة الملك إلى القمة العربية الإسلامية التي انعقدت قبل أيام في الرياض بالمملكة العربية السعودية.
ولأن واقع هذا الإجماع العربي والإسلامي والدولي الموثق أمميا، والمتوقف على التنزيل والتطبيق والترسيم، لا يرتفع ولو بحد السيف والسلاح والقصف والحرب والدمار وتغيير معالم الأرض والحدود، فإنه لا مكان على الإطلاق للعودة إلى نقطة الصفر لبحث تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أسس أخرى مغايرة، أو حلول لا تحترم الحد الأدنى لحل الدولتين الآمنتين المتجاورتين بحدودهما المتوافق عليها.
إن الأحداث المأساوية الأخيرة التي يشهدها قطاع غزة الفلسطيني ليست أحداثا معزولة، ولا هي في حد ذاتها سببا لاندلاع العنف والاضطراب في المنطقة، لأنها مجرد رقم في سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الشعب الفلسطيني وعلى حقه في إقامة دولته المستقلة والتخلص من الاحتلال الجاثم على كل مفاصل الحياة بالأراضي الفلسطينية، بدءا بتوسع الاستيطان وقضم الأراضي وتجريفها وانتهاك مقدسات الشعب الفلسطيني وتهويدها، وارتكاب مجازر في حق أبنائه، والرغبة الوحشية في تصفية قضيته العادلة، وانتهاء بتعطيل مسلسل السلام ووقف كل اتفاقيات الحل السياسي النهائي والعادل والشامل.
أحداث غزة الأخيرة هي نتيجة لهذه الأسباب المتراكمة لعقود من الزمن، والتي وقف المجتمع الدولي منها موقف المتفرج والمتجاهل لخطورتها بتخليه عن مسؤولياته في مرافقة أطراف النزاع إلى حين التنزيل النهائي لخطة التسوية السلمية المقررة، والتمكين لحل الدولتين، وتنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات التي رعتها وأشرفت عليها الدول والمنتظمات الأممية التي تتباكى اليوم على مآسي الحرب الدائرة في غزة وعلى الجرائم ضد الإنسانية.
الكل بات اليوم أمام التردي والانحطاط الكبيرين في إدارة وتدبير هذا النزاع، يدرك أن لا حل لهذه المأساة واللامبالاة القاتلة، إلا بتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية والأخلاقية عما يقع في غزة وكافة الأراضي الفلسطينية، والعودة إلى جذور وأسباب الأزمة الحالية المتمثلة أساسا، في انحباس الأفق السياسي، وعدم تنفيذ وعود السلام واتفاقاته.
إن اتساع رقعة ارتدادات وتداعيات هذه الحرب تتجاوز أطراف المواجهة المباشرة بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة، إلى كل الضمير الإنساني المصدوم يوما بعد يوم من هول المذابح وحجم الدمار والخراب واستهداف المدنيين والمستشفيات والمؤسسات التعليمية وقوافل الإغاثة والإسعاف وأماكن العبادة، بحيث لم تترك مكانا ولا فضاء آمنا في القطاع يمكن اللجوء إليه للاحتماء من الصواريخ والقنابل والنيران. ومن تداعيات هذه الحرب على الصعيد العربي والإسلامي خاصة آثارها وانعكاساتها المدمرة، المتمثلة أساسا في قفز وترامي العديد من الخلايا النائمة وذوي النوايا الخبيثة والأجندات على القضية الفلسطينية، واستغلالها كورقة لتصفية حسابات بين دول أو أفراد أو مجموعات على أساس التشكيك في الولاء للقضية الفلسطينية والاتهام بخذلان الشعب الفلسطيني وخيانته. فقد تصاعدت في الآونة الأخيرة وموازاة مع الجهود التي تبذلها الدول العربية والإسلامية لوقف الحرب والعدوان، ولنقل المساعدات لسكان غزة، وإدانة الصمت الدولي على الانتهاكات والمجازر، ولتغليب صوت الحكمة والتذكير بالتزامات السلام وحل الدولتين، حملات إعلامية وتحريضية للمزايدة أمام الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، بهدف تحقيق مكاسب ضيقة لنظام أو لهيئة أو لمجموعة أو لطائفة، وتصفية حساب باسم الشعب الفلسطيني، تكون نتيجته مزيدا من تمزيق الصف العربي والإسلامي، ومزيدا من الارتماء في أحضان الفتنة والقلاقل والاضطرابات، وتأخير تقدم مجتمعاتنا، وشغلها بعضها ببعض، وبالعنتريات والتطاول على الثوابت وعلى الأمن والاستقرار. وبدل الانخراط في جهد جماعي حكيم وواع وذي مصداقية لكسر الحصار عن غزة وإنقاذ ساكنتها وإغاثتهم، وإعادة إحياء ملف القضية الفلسطينية في اتجاه الحل السلمي العادل والدائم والشامل، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي بجرائمه، وتوسيع الإدانة الدولية لأعماله العدوانية، وإجباره على احترام القرارات والقوانين الدولية والجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل تنفيذ وتنزيل حل الدولتين، وإنهاء الاحتلال، يتم التداول في كيفية استغلال القضية الفلسطينية كورقة للابتزاز والمساومة والمزايدة في الساحة العربية والإسلامية، بما لا علاقة له من قريب أو بعيد بهذه القضية النبيلة.
ومما يؤسف له أن عمليات التشويه للجهود العربية والإسلامية في سبيل نصرة القضية الفلسطينية تتلاقى وتتواطأ مع العمليات الحربية الإسرائيلية، ومع مخططات الإرهاب والتطرف، وأجندات طائفية وعنصرية، لإلحاق الدول العربية والإسلامية بقطار العنف والشقاق والفتن، عبر التشكيك في النوايا الصادقة والمتجردة والحكيمة الرسمية والشعبية لوضع حد للحرب في غزة، وعبر التحريض ضد قيادات أو مسؤولين أو فرقاء سياسيين أو أشخاص وأفراد باسم الدفاع عن الشعب الفلسطيني وتحت ذريعة نصرته وبرفع شعارات ودعايات مغرضة ومبطنة تضمر شرا وسوءا في ما تزعمه من براءة ونضال من أجل قضية عادلة ونبيلة.
لقد كشفت حرب غزة ليس فحسب عن ضراوة ووحشية الاحتلال الأجنبي وبشاعته، وإنما عن صنف آخر من البشر بين أظهرنا، يفسد ويلوث نبل القضية الفلسطينية ببشاعة استغلاله لمآسي الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني للتسويق لتجارته وحساباته وأجندته ومؤامراته ومخططاته، والمزايدة على الشعوب والدول المتفرغة للدفاع عن عدالة وشرعية قضاياها الوطنية والقومية ومنها عدالة القضية الفلسطينية. ومثلما أننا ندين بأعلى صوت جميع الأعمال العدوانية الوحشية للاحتلال الإسرائيلي، نبرأ إلى الله من كل هذه النوايا الخبيثة والأطماع المتربصة التي تشكل رافدا للاعتداءات الإسرائيلية باستهدافها الصف العربي والإسلامي ودول الأمة وشعوبها بمخططات التحريش والتشكيك والتخوين والتشويه والعبث بأمنها واستقرارها ووحدتها الترابية. ويتعين على المخلصين والمنصفين والأحرار والحكماء من أبناء الأمة والوطن في هذه الظرفية المأزومة والشديدة والعكرة والمنفلتة التي اختلطت فيها الأجندات العدوانية والمؤامرات المتعددة الرؤوس، ألا يتيحوا الفرصة للمصطادين في الماء العكر والمتربصين دائرة السوء بأمننا ووحدتنا ومقدساتنا ونهضتنا وحرياتنا، كما نبه إلى ذلك خطاب ملك البلاد إلى قمة الرياض العربية والإسلامية في قوله: “يجب ألا نسمح بترك مستقبل المنطقة ومستقبل أبنائها بين أيدي المزايدين، فمستقبل المنطقة لا يتحمل المزايدات الفارغة، ولا الأجندات الضيقة”.