مسؤولية المجتمع الدولي
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
يتحمل المجتمع الدولي كامل مسؤولياته عن توسع أعمال العنف والتدمير في الأراضي الفلسطينية، وعما يقع للشعب الفلسطيني من حصار، ورفع منسوب الإحباط واليأس من الحل النهائي لقضيته العادلة التي دامت قرابة قرن من الزمن، تتداولها المقررات الأممية والشرعية الدولية بالتوصيات والحلول التي لم تجد طريقها إلى التنزيل على أرض الواقع. ومن هذه الحلول الملزمة التي أفضت إليها مسارات طويلة وشاقة من المفاوضات والتضحيات والتنازلات المتبادلة والحوارات المطولة، حل الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمان.
إلى هنا انتهت القرارات دون أن يكلف المجتمع الدولي، وعلى رأسه الدول الراعية للسلام، نفسه جهدا إضافيا وقويا لمساعدة أطراف النزاع على التوصل إلى صيغ عملية وواقعية وفعالة لتفعيل القرارات الأممية وإنهاء حالة الحرب والاحتقان. إذ مضى الجميع إلى سبيله تاركين لأطراف النزاع الساحة المشتعلة والملفات غير المحسومة والرؤى المختلفة والجراح النازفة، لتعيد القضية الفلسطينية إلى مربعها القديم من غير حل ولا أفق جدي لمباشرة أعمال بناء السلام وصناعة عهد جديد من التعايش، حيث طرحت مبادرات تلو مبادرات لتحريك الجمود والعودة لاستئناف المفاوضات والحوار ووقف الأعمال العدائية والاستيطانية، وعلى رأسها المبادرة العربية للسلام التي اعتمدها مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، ولا أحد من رعاة السلام دعم أو ساعد بقوة على الخروج من عنق الزجاجة، ولا على نزع فتائل وألغام متروكة على الساحة الفلسطينية والإسرائيلية، ومفتوحة على المجهول، كما لا أحد أوقف إسرائيل أثناء اعتداءاتها المتكررة والمتصاعدة على الشعب الفلسطيني وعلى أرضه ومقدساته الإسلامية والمسيحية، عند حدودها وألزمها بما التزمت به من الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه وسلامه وأمنه ودولته.
لقد ضربت بعرض الحائط كل معاهدات السلام وكل المجهودات الدولية في سبيل التمكين للشعب الفلسطيني من حقه في استرجاع أرضه ومقدساته، وإنشاء دولته وإنهاء معاناته، وكل المحاولات العربية بالخصوص لتشجيع الدولة العبرية على المضي في طريق السلام وإنهاء احتلالها للأرض وفك حصارها عن شعب، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الإسرائيلية العربية على أساس التعاون المثمر لفائدة كل شعوب المنطقة وطوائفها، وعلى أساس نشدان الاستقرار والعيش المشترك والأمن للجميع، وإيمانا من أغلبية الدول العربية الوازنة والحكيمة والحكمة، بأن شعبا ما أو دولة ما لا يمكنهما أن ينعما بسلام وحرية وأمان وحقوق، ما لم تنعم بذلك شعوب ودول بالجوار. فهل يتصور عقلاء إسرائيل وحكماؤها أن تنعم دولتهم بسلام دائم وأمن وأمان لشعبها، وشعب فلسطين بين ظهرانيها وفي محيطها محروم من أبسط حقوقه المكفولة إنسانيا وقانونيا، وعلى رأسها الحق في الحياة والوجود؟ لن يكون ذلك أبدا وقطعا إلا على حساب حق الشعب الإسرائيلي نفسه في نعمة الحياة والوجود، هذا ما يقضي به منطق التاريخ ويقضي به حكم الشرعية الدولية نفسها التي أقرت بوضوح بتلازم حق الشعبين في أمنهما وسلامهما ودولتيهما المتجاورتين.
إن الأحداث الأخيرة في غزة لم تكشف فحسب عن عمق الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية، وعن تقاطب حاد وشديد بين أنصار الحق الإسرائيلي في مواصلة الاستيطان والاحتلال والغارات والحصار، وأنصار المقاومة الفلسطينية في رد الاحتلال ودفعه والقضاء عليه، بل عن انقسام بالغ الخطورة في المجتمع الدولي السلمي نفسه، بين متمسكين بمخرجات مسار السلام ومسلسل التفاوض المتوقف عند حل الدولتين المتوافق عليه، وقد صاروا قلة أغلبهم محصور في الدول العربية والإسلامية، ومجموعة دولية منقلبة على نفسها وعلى خطاباتها الداعمة للحقوق والحريات، تنتمي غالبيتها إلى دول الغرب وأمريكا، تُعتبر ظاهرا راعية للسلام، انضمت بقوة إلى جبهة الحرب والقصف والإغارة، وإلى صف العدوان على السلام، والتخلي عن الشعب الفلسطيني والتضحية بحقوقه، والتراجع عن كل المعاهدات والاتفاقيات والمقررات الأممية القاضية بإيجاد حل عادل ودائم وشامل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بل القاضية بهذا الحل والملتزمة بدعمه وإرسائه.
ومن ثمة يبرز سؤال مؤرق يخز الضمير الإنساني والأخلاقي لهذا المجتمع الدولي، الذي تخلى طولا وعرضا عن التزاماته وتوافقاته لأزيد من أربعة عقود من الزمن على حل الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلم وأمان، حول مدى المسؤوليات المباشرة لهذا المجتمع عن التصعيد الأخير والخطير في غزة، بمراكمته للإحباط واليأس في الصف الفلسطيني، وإعطائه الضوء الأخضر لإسرائيل في توسيع المستوطنات وقضم الأراضي، واقتحام الحرم القدسي الشريف، والاستيلاء على المنازل والبيوت في الأراضي المحتلة، وتدمير غيرها في قطاع غزة، وتجويع الشعب الفلسطيني، وضرب الحصار عليه، واستعمال الحق في الغذاء والدواء والماء والكهرباء سلاحا في الحرب.
إن منطق فرض الأمر الواقع بالقوة، فضلا عن تحريف الصراع القائم من نزاع على الأرض وعلى الحدود وعلى الحقوق، إلى حرب حضارية ودينية مدمرة كما بدأ الغرب نفسه في تسويقها إعلاميا وديبلوماسيا، من شأنهما أن يبعدا ملف حسم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني عن إطاره الأممي ومرجعية الشرعية الدولية التي تكفلت بحله ورعاية المفاوضات والمباحثات بخصوص الوضع النهائي الميداني والعملي لهذا الحل. وما لم تتخل الدول الراعية للسلام والمجتمع الدولي بصفة عامة عن تشجيع منطق الحرب والقوة والغلبة والانتقام، وتسعى إلى تدارك القضية الفلسطينية بإعادتها إلى مسار مفاوضات السلام ومباحثات حل الدولتين، فإن ثقة كل المؤمنين بالسلام في العالم ستهتز وتتهاوى، مخلفة وراءها أرضا خلاء وجرداء تكتسحها نزعات التطرف والكراهية والإقصاء، وتدوي فيها صفارات الإنذار ونذر الشؤم، كما هو حاصل في هذه الأيام العصيبة سواء في المدن الفلسطينية أو في المدن الإسرائيلية، وحينئذ لا تسألوا أحدا عما وقع أو يقع من مذابح ومظالم وخراب ودمار، ودوس على كل القيم الإنسانية المشتركة، لم يحسب المجتمع الدولي جيدا كلفتها الأخلاقية والإنسانية والحضارية والزمنية، قبل أن يحسب كلفتها المادية والمالية والمصلحية الضيقة، التي ترى هذه الحرب مجرد نزهة خاطر وصولة شاطر.