قضايا وآراء

طوفان وسيوف في اتجاه المجهول

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس

كل عناصر تفجير الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المعلقة في المجهول كانت جاهزة ومتوفرة لنسف مكتسبات مسار الحل السياسي المتوافق عليه إقليميا ودوليا، أمام تنامي وتصاعد أعمال العنف والتطرف من الجهتين الإسرائيلية والفلسطينية، من جهة الفعل الإسرائيلي المتمثل في تطويق مسلسل السلام وتقييده وتجميده وتعطيله بتسريع بناء المستوطنات والتوسع على حساب الأراضي الفلسطينية، والتعويل على الغارات العسكرية واستعمال القوة المفرطة لكسب مواقع حاسمة لصالح الاحتلال، فضلا عن التمكين للتيارات المتطرفة الرافضة للسلام وحل الدولتين من مراكز القرار في الدولة والمجتمع، واستمرار تهويد القدس الشريف واقتحام باحات الحرم المقدسي بالمسجد الأقصى، وإراقة الدماء في جنباتها، ومن جهة رد الفعل الفلسطيني المتمثل في توسع الانقسام والخلاف في الصف الفلسطيني وغياب المؤسسات وتغييب السلطة الوطنية والمفاوض الفلسطيني الوازن لصالح هيمنة الميليشيات والفصائل المسلحة وتنفذها، ولجوئها إلى خطاب العنف والمعارك المسلحة وأعمال التدمير والانتقام، فضلا عن التحالف مع قوى من تجار الحروب وقضايا الشعوب لخدمة أجندات عدوانية على الدول العربية باستهدافها مقومات وجودها وحدودها وثرواتها ومقدساتها واختياراتها السلمية، وهي القوى نفسها التي دمرت العراق الأبي واليمن السعيد وسوريا الصمود ولبنان التعايش والكرامة.

فحينما اختارت الدول العربية والإسلامية ومعها القوى الدولية بل المجتمع الدولي برمته مسار السلام لحل القضية الفلسطينية على أساس الحق والعدل والشرعية الدولية، بعد عقود من الحروب والاشتباكات المسلحة التي لم تؤد إلا إلى مزيد من قضم الأراضي الفلسطينية وضمها وتثبيت الاستيطان والاحتلال، وتشريد الشعب الفلسطيني وقهره وحرمانه من أبسط حرياته، بل من الصورة المشرقة لكفاحه ونضاله من أجل بناء دولته وحماية أرضه واسترجاع مقدساته، فإنها تعهدت إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني على المضي في هذا المسار التفاوضي السلمي المزكى من قبل جميع الأطراف وبإشراف أممي، والذي يعترف بموجبه بثلاثة ثوابت لا حياد عنها لتسوية هذا النزاع المرير الذي عطل المصالح الإقليمية والدولية المتبادلة، وأثر سلبا في إقامة السلام، وفي مصداقية خطاب الشرعية الدولية منذ أربعينات القرن الماضي وحيث قرارات المنتظم الأممي تتابع بالتوصيات والحلول، دون أن تجد طريقها إلى التنزيل أو إلى تنفيذ التزامات الأطراف المعنية بها، والثوابت الثلاثة هي: حل الدولتين دولة إسرائيل ودولة فلسطين تتعايشان جنبا إلى جنب، وإقامة الدولة الفلسطينية عند حدود يونيو من عام 1967، الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. وعلى هذه الأرضية التي توجت بها جهود الحل، فتحت جبهة التفاوض وإلقاء السلاح، قبل أن ينقلب المنقلبون على كل الالتزامات، ويتراخى الدعم الدولي وتجد التيارات المتطرفة من الجانبين ثغرات للعودة بالقضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر وإلى المجهول، وكأن لا مكتسبات ولا تطورات ولا اعتراف ولا عهود ولا اتفاقيات ولا مصداقية ولا أمن ولا أمان، لتعود صفارات الإنذار وأزيز الرصاص وحدهما من يدوي في الأفق، ليجرفا معهما كل الشعارات، ولتكون الكلمة من جديد للقوة والعنف وسفك الدماء، وللطريق المسدود الذي طالما حذر الحكماء من خطورة زج المنطقة في مهاويه، مع ما يترتب عنه من إهدار فرص السلام الحقيقي الذي سينعم فيه الشعبان والدولتان بمخرجاته وخيره وأمنه وعدله وحرياته الموعودة.

لن ينعم الإسرائيليون ولا الفلسطينيون باستقرار وسلام في أجواء من تزكية كليهما لمنطق القوة وفرض الأمر الواقع، والتراجع عن كل المكتسبات والالتزامات والتعهدات والعهود المقطوعة للمضي في التهدئة ومباشرة التفاوض والإقناع بجدوى الحل السياسي، وبفوائد الانخراط مع المجتمع الدولي في مبادرات طي صفحات العنف والتلاعب بالاستقرار والأمن الإقليميين والدوليين. وعلى رأس هذه المبادرات، المبادرة العربية للسلام العادل والشامل والدائم المعلن عنها في القمة العربية الرابعة عشرة المنعقدة في بيروت عام 2002، والتي في ضوئها تم تشجيع قيام علاقات طبيعية بين الدول العربية ودولة إسرائيل، على أساس المبدأ المدعوم أمميا ودوليا: الأرض مقابل السلام.

ولأن بلدنا المغرب الذي جعل القضية الفلسطينية في مرتبة قضية وحدته الترابية، من حيث الالتزام الصادق والقوي بالدفاع الشرعي عنهما، وتبني نهج السلام والتفاوض والحل السياسي للنزاعات بشأنهما، يظل منسجما مع نفسه ومبادئه واختياراته، لا يحيد عنها، ولا يكيل بمكيالين، ولا يرى لهذه حلا عسكريا أو دمويا، ويرى لتلك حلا سياسيا وتفاوضيا، فإن كل مبادراته ومواقفه من النزاعات سواء بشأن حقوقه وسيادته، أو حقوق الشعوب والدول وسياداتها، تعتمد المقاربة نفسها، والثقة نفسها في القيم الإنسانية المشتركة وفي العدالة الإلهية والدولية، وفي القوة التفاوضية والإقناعية لمبادرات السلام الدائم والشامل والعادل، من أجل إسكات البنادق وإيقاف الحروب والاقتتال، والانتصار لأصوات الحكمة، والجنوح الدائم لجبهة السلام ما أمكن، وبكل التضحيات والصبر على الأذى وضبط النفس، والمرابطة على الحق إلى حين ظهوره وإشراقه على العالمين.

الرباط المغربي على هذه الجبهة بكل ثقة في حسن الاختيار، والجنوح إلى أفضل الخيارات السلمية، والجدال بالتي هي أحسن، وتفادي سفك الدماء، والكف عن الأذى، ونبذ سبيل العنف في المعاملات والعلاقات الديبلوماسية الدولية، والاحتكام إلى الشرعية الدولية وإلى صوت العقل والحكمة، هو الذي يشكل التميز المغربي الديبلوماسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويعطي المصداقية تلو المصداقية لدعواته للتهدئة والانخراط في سبيل المؤمنين بالحوار والتعايش والتساكن والتراحم.  

ولهذا جاءت الإدانة المغربية الشديدة لاندلاع الأعمال العسكرية في قطاع غزة، على أساس أنها تستهدف نسف فرص السلام ونهج الحوار والتفاوض، وتسعى إلى التشكيك في عدالة ومصداقية وشرعية هذا النهج، باستهداف الأبرياء والمدنيين واتخاذهم تروسا وتيوسا لحرب ضروس لن تحرر أرضا ولا إنسانا، ولن تحقق لإسرائيل سلاما وأمانا، ولن تجنب الشعب الفلسطيني ويلات الاحتلال ونهب الخيرات وتدنيس المقدسات وتقسيم الصف وتناسل الفصائل الدموية وتناحرها.

إن انسداد أفق الحل السياسي الذي طالما نبه المغرب إلى خطورته وتداعياته السلبية على العلاقات الإسرائيلية والعربية وعلى السلام في المنطقة، وطالما حمّل المجتمع الدولي والقوى الوازنة والضاغطة مسؤولياته في التراخي والتغافل عن مباشرة إصلاح الأعطاب في العملية السياسية، تحسبا للأسوأ الذي وقع بالفعل، صار يهدد بقوة المجتمع الدولي برمته، ويدفع الشعوب إلى مزيد من الارتماء في أحضان خطابات اليأس والتشدد، وزيادة منسوب الاحتقان، وهي نتيجة طبيعية لانسداد أفق السلام والحل السياسي، بفعل تحالف الدم المسفوك وأجندات القتل والتخريب والتدمير التي تعلن عن نفسها على مستوى الشعارات عبر رفض السلام والتعايش والحق في الحياة والكرامة والأمن للجميع، والتشكيك في المبادرات الواقعية والنوايا الصادقة للعاملين على وأد الكراهية وإطفاء نيران الحروب، كما تعلن عن نفسها على المستوى الميداني باستعجال الفرح بالدماء المسفوحة، والأشلاء الممزقة، والجثث المركومة، والانتقامات المتبادلة والخراب المهول، وإطلاق كل الشرور المستطيرة من عقالها لإصابة أمة شريكة وقضية عادلة في مقتل.

لا بديل إذا عن مواجهة الأجندات المتعطشة للدماء والأشلاء المتناثرة، والتي تتاجر بآلام وأحلام الشعب الفلسطيني، وبالأرض الفلسطينية المعطاء التي رفعت غصن الزيتون في وجه الاستفزازات والابتزازات، وذلك بالإحياء الفوري لعملية السلام المهدور، وإلزام الأطراف بالعودة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وإنهاء الاحتقان وكل مؤامرات الالتفاف على المقررات الدولية والمعاهدات الموقعة والملتزم بتنفيذها كل من موقعه ومسؤولياته، بهدف تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه وحرياته، وعلى رأسها حماية أراضيه ومقدساته، وبناء دولته الوطنية المتمتعة بسيادتها كاملة، والباقي مجرد تفاصيل للحوار والتفاوض، لا ينبغي أن تنسف المبادئ والأصول والأرضية المتوافق عليها عربيا ودوليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق