صوت الحكماء والعقلاء

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
لم تكد تمضي بضعة أسابيع على تطاولات وتهجمات البرلمان الأوروبي على بلادنا، بما صحبها من محاولات ابتزاز واستفزاز للوحدة الترابية للمملكة، حتى خرجت أصوات عديدة من هذا البرلمان نفسه مستنكرة هذه الحملة الممنهجة والظالمة ضد بلد شريك، وكاشفة عن خيوط اللعبة البئيسة التي قادتها جهات فرنسية بالخصوص للضغط على المغرب وابتزازه، ومحاولة ثنيه عن مساراته التنموية والوحدوية والتنافسية التي اختطها لمستقبل آخر ممكن في علاقاته بالمجموعة الأوروبية يطبعها الاحترام المتبادل، والندية والوفاء بالالتزامات، والبعد عن سياسة المعايير المزدوجة والمتعددة والأحادية الجانب، وقصيرة النظر في مقاربة العلاقة مع هذا البلد العربي والإسلامي والإفريقي الضارب في عمق التاريخ والجغرافيا، بما يشكله من عامل استقرار وسلام وأمن وصمام أمان بين ضفتي المتوسط.
وإذا كانت تصحيحات وتوضيحات أعضاء من هذا البرلمان الأوروبي، هي مجرد تصريحات فردية وشخصية، على هامش خرجاته الفاشلة، وشطحاته غير الموفقة وغير محسوبة العواقب والمخاطر، والتي تضرب في الصميم مصداقية مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتعبث بمصالح دولها وشعوبها، فإن خروجا جماعيا لأعضاء البرلمان الأوروبي رفقة خبراء دوليين من مختلف المجالات الحيوية والحساسة الأمنية والعسكرية والسياسية والديبلوماسية والاقتصادية، في ندوة وازنة نظمت الأسبوع الماضي بمدريد، بمبادرة من معهد كورديناداس الإسباني للحكامة والاقتصاد التطبيقي، كشفت عن تيار كبير ووازن داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ينظر بعين الريبة وبكثير من القلق إلى التحركات المشبوهة والخاطئة للزج بالسياسة الأوروبية في معارك خاسرة مع المغرب البلد الحافظ لعهوده، والشريك فوق العادة، الملتزم بصدق في المنطقة المغاربية والإفريقية باتفاقياته مع الاتحاد الأوروبي، وتحديدا مع المفوضية الأوروبية، كما ورد على ألسنة الخبراء الديبلوماسيين والعسكريين والأمنيين في مداخلاتهم خلال الندوة.
وبينما تسعى شرذمة من الموتورين وذوي الأجندات الاستعمارية والعدوانية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها برلمان أوروبا، إلى الانزلاق بالعلاقات المغربية الأوروبية في اتجاه القطيعة والدس، وخيانة الاتفاقيات والشراكات والمصالح المشتركة، نجد أنه لا تزال في دول الاتحاد الأوروبي وفي مؤسساته الأمنية والعسكرية والديبلوماسية والبرلمانية، وهيئاته الاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني بقية أصوات للحكماء والعقلاء الذين ينفضون عنهم يوميا غبار التفرج على انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية الأوروبية في معاملة الدول والشعوب بمنطق الوصاية والاستغلال والغش والخديعة.
فما أسفرت عنه هذه الندوة من توصيات حكيمة وعاقلة كسرت جدار الصمت والغموض وإيثار المنطقة الرمادية المريحة لبعض الساسة الأوروبيين وذوي القرار منهم خاصة، بشأن دعم الوحدة الترابية للمملكة، وإنهاء التردد بشأن مبادرة الحكم الذاتي لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، التي أجمعت ندوة الخبراء هذه على كونها “الحل الواقعي والفعال لتحقيق الاستقرار في المنطقة”. لم يكتف المتدخلون بالتعبير عن مواقفهم الإيجابية الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي، وإنما دعوا الدول الأعضاء في البرلمان الأوروبي إلى مد كل أشكال الدعم لهذا الحل السياسي النهائي للنزاع، ليس لسواد عيون المغرب ولا لأجل دعم المغرب مجانا، وإنما لأن مصالح أوروبا، أولا وقبل غيرها، مهددة باستمرار هذا النزاع المفتعل، وتدخل أطراف متآمرة وفاسدة فيه لمنع أي حل في الأفق يجعل المنطقة المغاربية وحدود أوروبا آمنة وغانمة.
لقد أدركت هذه النخبة الأوروبية من العقلاء والخبراء والحكماء والنشطاء التي يتزايد أعضاؤها وشخصياتها الوازنة كما يتصاعد تأثيرها القوي في دواليب القرار الأوروبي، أن دعم الموقف المغربي العادل والشرعي في مفاوضات الحل السياسي لنزاع الصحراء، هو دعم للسلام والاستقرار والأمن، ودعم للتعاون والشراكات الاستراتيجية الكبرى للنهوض بالإمكانات الهائلة التي تتوفر عليها ضفتا المتوسط لتبادل المصالح بين عموم أوروبا وإفريقيا. إذ لم تفوت المداخلات في هذه الندوة الربط بين العمل المغربي الدائم والمتواصل من أجل تثبيت الاستقرار في المنطقة لمصلحة دولها وأمن شعوبها، والأعمال العدائية المضادة والمعاكسة التي تجني منها المنطقة كسادا وركودا وتهديدا دائما لأمنها وزعزعة لاستقرارها، حيث حذرت عدد من مداخلات الخبراء والأمنيين الأوروبيين في هذه الندوة من خطورة استقطاب الجارة الشرقية للمغرب المعادية لمصالحه، لدخلاء وإرهابيين ودول مارقة إلى المنطقة، وعلى حدود أوروبا، وبتماس خطير مع مصالح دول الجوار الإفريقي والأوروبي.
إن من شأن تزايد الوعي الأوروبي بخطورة اللعب بنيران التوتر، أن يدفع الاتحاد الأوروبي، أقرب مجموعة دولية لهذا النزاع، إلى الخروج من منطقة الراحة التي لم تفض إلا إلى ما نشهده اليوم من جمود وانتكاسة للجهود الصادقة من أجل بناء شراكات قوية ومتينة بين ضفتي المتوسط وبين أوروبا وإفريقيا، لحل معضلات ترتبط كلها بحالات انعدام الاستقرار والتشجيع عليه، من مثل تدفقات الهجرة غير الشرعية، والاتجار في المخدرات والسلاح والتهريب والإرهاب…
وكذلك فإن من شأن استدامة نزاع الصحراء وعدم بذل أي جهد لدعم الحل السياسي، أو الأخذ بجدية المبادرات والمقترحات السلمية المطروحة، وإيثار الإبقاء على الغموض في مواقف الفاعل السياسي الأوروبي، أن يصيب في مقتل جهود التعاون والشراكة التي تتطلع إليها شعوب ودول المنطقة الأورومتوسطية، وأن يُضْعف المبادلات بين القارتين الأوروبية والإفريقية، وهو ما نلحظه في التهديدات الدائمة للشراكات والاتفاقيات بالتراجع والتجميد، بدل التطوير والتحسين والرفع من الأداء ومن المكاسب ومن أرقام المعاملات.
وإذا كان من شيء بارز نجح فيه المغرب في العقدين الأخيرين بخصوص نزاع الصحراء، فهو نجاحه الديبلوماسي الكبير في تشبيك المصالح في المنطقة والربط بين الاستقرار والسلام والأمن والوحدة الترابية للبلد وتنفيذ التزامات شراكات واتفاقات “رابح ـ رابح”، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال، بعد هذه المكتسبات العائدة بالخير والنفع العميم على الجميع، أن يَقبل من أوروبا دور المتفرج المستفيد الوحيد من وضع اللااستقرار، والمقتات والمتربح من معاناة المغرب وكفاحه من أجل تثبيت الأمن والاستقرار الضروريين لكل شراكة ومبادلة. فإما أن نتحمل مجتمعين هذا المصير المشترك الواعد والمهدد بمخاطر الانفصال والإرهاب، وإما أن تواصل الأطراف المغرضة، ذات الأجندات العدوانية أحادية المصلحة والاستفادة، معاكستها لشرعية الوحدة الترابية للمملكة، وحينها سيأتي الدور عليها، وقد أتى لتعض أصابع الندم على ما ضيعته من فرص كانت متاحة لتشجيع السلام وتكريسه، ومنع العدوان وإخراس بنادق الكراهية وأبواقها، وحينها لن ينفع الندم لأن التاريخ سيمضي بالمغرب بعيدا في تثبيت وتحصين مكتسباته الوحدوية والديموقراطية والتنموية، تاركا لهم مخلفات الاستعمار والإرهاب وأذنابه ترتد بسيوفها إلى نحورهم وتأكل أطرافهم.