قضايا وآراء

منعطف حضاري حاسم

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس

يحتفل الشعب المغربي ومعه أسرة المقاومة والكفاح الوطني بالذكرى التاسعة والسبعين على تقديم أهم وثيقة في مسيرة التحرير، والتي شكلت في التاريخ المعاصر منعطفا لاسترجاع السيادة المغربية والوحدة الترابية وإنهاء عهد الحماية والحجر، وتقديم مطالب القوى الحية والنخب القيادية الوطنية إلى سلطات الحماية وإلى الجهات الدولية للاعتراف باستقلال المغرب وإعادة مقاليد حكم البلاد كاملة إلى الدولة المغربية بقيادة ملكها الشرعي، والتأكيد على استمرار التحالفات التاريخية والمعاصرة للدولة المغربية العريقة ورعاية مصالحها ومصالح حلفائها المشروعة، والاستعداد في السياق العالمي الجديد لفتح ملف الإصلاحات السياسية لنظام الحكم التي يرعاها ملك البلاد الشرعي، بما فيها وضع أسس دولة القانون والحريات والحقوق والديموقراطية.
لقد تضمنت وثيقة المطالبة بالاستقلال التي وقعتها نخب المقاومة والحركة الوطنية المغربية بتوافق تام مع جلالة المغفور له الملك محمد الخامس، كل العناصر الموضوعية المؤهلة لبلاد تحت الحماية، لاستعادة عافيتها وضمان تسيير شؤونها في إطار دولتها القائمة منذ قرون، والتي لم تستطع التدخلات الأجنبية ولا الأوضاع المحلية والظروف الإقليمية أن تسقطها أو تفكك تلاحم عرشها بشعبها، إذ من بين ما أكدته هذه الوثيقة أن “الدولة المغربية تمتعت دائما بحريتها وسيادتها الوطنية وحافظت على استقلالها طيلة ثلاثة عشر قرنا إلى أن فرض عليها نظام الحماية في ظروف خاصة” كما أكدت على استمرار الأمة المغربية بكل مكوناتها التي عمل نظام الحماية على الإضرار بها، بالانحراف من الغاية الإصلاحية الإدارية والاقتصادية والعسكرية التي شكلت مبرر وجوده، إلى ممارسات تمس بـ”سيادة الشعب المغربي التاريخية ونفوذ جلالة الملك”، ومحاولة فرض نظام استبدادي بديل يستحوذ على مقاليد الحكم لفائدة المعمرين.
كانت هذه التحولات الغادرة في الحماية هي النقطة التي أفاضت كأسها وجعلتها غير ملزمة ولا معتبرة بالنسبة للأمة المغربية التي لم تتنازل في يوم من الأيام وتحت أي ظرف من الظروف أو معاهدة من المعاهدات المرحلية، عن كل ما يشكل مقومات بقائها وصمودها، ولهذا السبب الذي انجر إليه المعمرون الفرنسيون بانحرافهم بمعاهدة الحماية إلى استيطان واستعمار واستبداد، ومحاولة حكم البلاد، والعزل التدريجي للدولة المغربية القائمة بقيادتها الملكية، كانت هذه الوثيقة خلاصة مرحلة واستشراف مرحلة أخرى جديدة تقطع بصفة نهائية مع انحرافات نظام الحماية الفرنسي، وترفع مطلب الاستقلال التام والنهائي للمغرب، وفتح صفحة جديدة ومعاهدات أخرى مع دولة فرنسا في سياق دولي جديد أثبتت فيه الدولة المغربية القائمة بقيادة عاهلها أهليتها وشرعيتها، من خلال مشاركاتها المتميزة والفعالة بجانب الحلفاء في الحروب العالمية وفي دعم حركات التحرير، بل وفي دعم فرنسا نفسها ومساعدتها لتحرير بلادها وضمان أمنها ووحدتها الترابية.
وثيقة الاستقلال أثبتت نضج النخب المغربية الأصيلة التي حررتها بوعي سياسي كبير، وبلغة ديبلوماسية راقية ورفيعة، وبنبل باهر في الاعتزاز بالقيم الوطنية الخالدة والتشبث بالقيم الإنسانية المشتركة وبالاحتكام إلى الشرعية الدولية، وحيث إن الوثيقة كانت بهذا النضج الكبير والقوة الإقناعية ودعوة الدول المحبة للسلام والشريكة للدولة المغربية آنذاك في معارك العصر لبناء قوة سلام دولية في مواجهة الديكتاتوريات الصاعدة، وتحرير الدول والشعوب من الاضطهاد والاستعمار والهيمنة، فإن المعمرين تفاجؤوا بها وصدرت عنهم ردود فعل عنيفة، كان أقلها الإعلان عن حملات اعتقال في صفوف موقعيها وكافة القوى الحية والأحزاب السياسية الوطنية، وإحالات على المحاكم العسكرية وصدور أحكام بالإعدام، مع ما استتبع ذلك من انتفاضات شعبية كبرى في أغلب مدن المملكة، ووجهت بقمع عنيف وأدت إلى استشهاد عدد من الأحرار، وإلى مضايقات للأسرة الملكية الشريفة بلغت حد نفي ملك البلاد الشرعي إلى خارج وطنه، وازدياد حالات الاغتيالات في صفوف المعمرين والخونة والاستشهاد في صفوف المقاومين، واتساع رقعة التذمر والقطيعة التامة مع إدارة الحماية، الأمر الذي عجل في ما بعد بأحداث متسارعة توجت بثورة الملك والشعب التي كانت نتيجتها سقوط الحماية وإعلان المغفور له الملك محمد الخامس عن انتهاء عهد الحماية واستقلال المغرب.
إن الروح الحضارية والتحررية لوثيقة المطالبة بالاستقلال، هي التي ألهمت المغرب في مسيرته المعاصرة كل ما أبدعه في ما بعد من ملاحم الاستكمال السلمي والديبلوماسي لتحرير أجزاء متبقية من ترابه الوطني، ومن مشاهد سطرها في ديوان التاريخ للترافع في جميع الملفات المرتبطة بالدفاع عن سيادته وحماية مصالحه المشروعة وبناء دولة الحريات والحقوق والديموقراطية والتنمية، ومواصلة العمل مع الدول الشقيقة والصديقة على تثبيت السلام في العالم والجنوح للتفاوض والحوار في كل الأزمات الطارئة، ونبذ التطرف والكراهية والعنف في المعاملات بين الأفراد والدول والشعوب.
فتحية في هذه الذكرى العطرة والمجيدة لشعبنا الوفي، والنصر والمجد لعاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس وارث سر جده المغفور له الملك محمد الخامس ورفيق كفاحه المغفور له الملك الحسن الثاني، والخلود لشهدائنا الأبرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق