قضايا وآراء

أوروبا فرنسا غيت

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس

حينما نتناول موضوع العلاقات المغربية الفرنسية والأوروبية بصفة عامة، نشعر بنوع من المرارة والغثيان، بالنظر إلى طول النفَس المغربي على الغدر الدائم المبطن في السياسات الأوروبية الفرنسية التي تعلن غير ما تضمره، وتستسهل اللعب على الحبلين، وتستطيب مناطق الراحة والظل والغموض والهروب إلى الأمام؛ حلاوة اللسان والخطاب من جهة، ومرارة طعنات الغدر في الجهة الأخرى. فكلما لاحت في أفق هذه العلاقات المغربية الأوروبية والفرنسية خاصة، بوادر النّدّية والاحترام المتبادل ورعاية المصالح المشتركة واقتسام النجاحات والإخفاقات كذلك، إلا وسارع الجانب الفرنسي ومعه دول من الاتحاد الأوروبي، إلى التشويش والتشويه، وإخراج أوراق وملفات الابتزاز الدائم لبلادنا، لتميل كفة المصالح كلية إلى هذا الجانب، بالنظر إلى ما يملكه من قوة ضغط ولوبيات وأذرع منتشرة في الإعلام والصحافة العالمية والمنظمات الحقوقية الدولية والهيئات الرقابية والقضائية التي تضع بلادنا تحت المجهر، وتفبرك الأرقام والفضائح، وتصنع ملفات مخيفة ومرعبة عن سياسة المغرب، وعن توجهه التنموي، تقطر بالمؤامرات والتضليلات وتحريف الوقائع واختلاق تُهَم، تكلف بلادنا الغالي والنفيس لدفعها، ورد زيفها والوقوف في وجهها أمام المحافل الدولية، وكذا معالجة مخلفاتها وتداعياتها وآثارها الوخيمة على صورة المغرب الحضاري وعلى مصداقيته.
فرنسا التي تخطب ود المغرب، وترى الأزمة الديبلوماسية معه مجرد مشكل في التأشيرات، وقَدِمَت وزيرة خارجيتها إلى الرباط لتعلن أمام الملأ انتهاء الأزمة، وعودة التأشيرات والتسهيلات القنصلية لولوج التراب الفرنسي، تعلم قطعا أن الأزمة لا علاقة لها بقرار سيادي فرنسي قنصلي لتنظيم الولوج إلى ترابها، وأن هذا القرار يدخل بنفسه في الخدعة السياسية للتغطية على عمق الأزمة الأخلاقية للديبلوماسية الأوروبية والفرنسية خاصة، والتي تستمد جوهرها وروحها من فكر استعماري وعنصري بغيض، لا يرى كرامة ولا حقا لدول وشعوب إفريقية كسر الاستعمار طموحاتها المشروعة، ونهب ثرواتها، وربط مصيرها بالهيمنة المفروضة والدائمة على مستقبلها، وأحاط طريق نهضتها ونمائها بكل الأشواك والألغام التي يمكن تخيلها أوافتراضها.
المغرب الذي خبر عن قرب وبمرارة وطول نفَس وصبر على الأذى، هذه الانقلابات والانفلاتات في علاقاته بالمجموعة الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، عقلها السياسي المدبر للأزمات والمصطاد في المياه العكرة، صار أكثر استعدادا من أي وقت مضى، بعد استجماعه لكل شروط مواجهة الغدر والظلم والتآمر والابتزاز، لوضع فرنسا خاصة في الزاوية الضيقة لأجندتها العدوانية المفضوحة، معلنا بشكل ضمني، أنه يمنح هذا البلد الشريك فرصة التراجع عن أساليبه المكشوفة في الابتزاز والاستهتار بالشركاء الأفارقة، وبمستقبل العلاقات الفرنسية الأوروبية والمغربية الإفريقية.
كنا نأمل أن تكون زيارة وزيرة خارجية فرنسا للمغرب تمهيدا لزيارة رئيسها ماكرون، بعد أزيد من سنة على العربدة والتطاول والتشويش والغطرسة، وافتعال أزمات، ومراكمة أخطاء ديبلوماسية قاتلة لا تليق بحجم دولة تنتمي إلى المجتمع الدولي المتحضر والملتزم بقيم التعاون والاحترام المتبادل، أن تكون هذه الزيارة محطة لتغيير جذري في السياسة الخارجية الإفريقية لفرنسا، وأن تتوج بوضع أرضية جديدة لبناء علاقات شراكة استراتيجية عميقة وحقيقية تقطع نهائيا مع عهود وعقود من الابتزاز والمساومة، لكن الذي حصل أن هذه الوزيرة التي تبشر بقدوم رئيسها إلى المغرب كفاتح للبلد، أعادت سلوك الابتزاز والمساومة الرخيصة إلى الواجهة، بالتركيز على ملف التأشيرات الذي افتعلته في ظرف، ثم وضعت حلوله في ظرف آخر، وكأنه فتح مبين سيصفق له المغرب، ويشكر عليه فرنسا الأنوار التي تتفضل على الشعوب والأمم المستعمرة بمكرمات وصدقات وعطايا ومنح، تهبها من تشاء ومتى شاءت، وتمنعها وقتما تشاء وعن من تشاء، والحال أن موضوع العلاقات الفرنسية المغربية مرتبط أصلا في المنظور المغربي بالكف عن هذا السلوك المشين، وعن هذه المعاملة الخبيثة والمنحطة، وبحث أفاق أخرى ممكنة، واستشراف سبل جديدة للوضوح والشفافية والصدق والموثوقية التي تمنع تكرار مثل هذه الإساءات والتطاولات على بلد لا يكن لفرنسا ولشعبها إلا كل خير، وكل أمل في مستقبل أفضل للعيش معا في ظل شراكة رابح ـ رابح، واحترام الالتزامات والتعهدات والاتفاقيات، فيما تعمل فرنسا ولوبياتها الأوروبية وأذرعها الإعلامية والحقوقية على الاحتيال مجددا على حسن النوايا المغربية، بسوء نواياها، وإلا فبماذا تفسر فرنسا هذه الهجمة الفرنسية والأوروبية الممنهجة على المغرب، والمتزامنة مع زيارة وزيرة خارجيتها والزيارة المرتقبة لرئيسها ماكرون من أجل تبديد الأزمة، فلكأن الأوامر قد أعطيت في هذا التوقيت بالضبط لإخراج مسرحيات قديمة منها مسرحية “بيغاسوس” ومسرحيات “حقوق الإنسان في المغرب” ومسرحيات جديدة تقحم المغرب ودولة قطر الشقيقة في ملفات الرشاوى المفترضة في البرلمان الأوروبي، في ما بات يعرف اليوم في الإعلام الأوروبي ـ الفرنسي بقطر غيت والمغرب غيت… للضغط اللاأخلاقي على الموقف التفاوضي المغربي في شراكاته واتفاقياته مع الطرف الفرنسي والأوروبي، وإضعافه بالضربات الموجعة تحت الحزام، حيث ألفنا هذا السيناريو الفضائحي الممل من كثرة تكراره وإعادة تدويره.
كنا بالفعل على صواب حينما وضعنا حدا بين الجد واللعب في علاقات فرنسا ببلادنا، ولم ننسق وراء وعود وبشائر انتهاء الأزمة وعودة العلاقات الطبيعية بين البلدين، بمجرد تصريح إيجابي عام ومديح في الهواء وطمأنة عائمة بأن فرنسا تقف إلى جانب الحق المغربي بـ”الزغاريت” وورود مهداة وقبلات على الحنك، لعلمنا الأكيد بأن ثمة وراء الظهور خناجر غدر وسيوف مكر تستعد لقطع كل حبل ممدود إلى مستقبل نِدَي مشترك، فمع كل وردة وابتسامة فرنسية وخطاب مجاملة، ثمة مخطط مسموم لمزيد من ابتزاز المغرب ومساومته في مواقفه ومقدساته، والتلاعب بشراكاته واتفاقياته، تماما مثلما يفعل الاتحاد الأوروبي باتفاقات الفلاحة والصيد البحري، التي يوقعها بيد من جهة، ثم يدفع هيئاته وأجهزته القضائية والحقوقية والرقابية من جهة أخرى للطعن فيها بحجة شمول الاتفاقات للأقاليم الصحراوية الجنوبية المغربية المتنازع حولها، مما يترتب عنه الاستفادة المريحة للطرف الأوروبي من مخرجات هذه الاتفاقات والعقود وأرباحها ومكتسباتها وامتيازاتها، ومساومة المغرب بالضغط عليه لتقديم تنازلات وتبديد جهوده وثروته في رد المخاطر والتهديدات والتشويشات المترتبة عن زيادة التوترات الإقليمية مع أعداء وحدته الترابية.
وإلى أن تعي فرنسا ومعها دول من الاتحاد الأوروبي، أن سياسة العصا والجزرة لم تعد مقبولة في معاملة دول الجنوب وبناء علاقات معها، وأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، لأنه استعد جيدا لهذه المعركة اللاأخلاقية المتجددة تجدد فزاعات بيغاسوس والجاسوس والرشاوى والتباكي على حقوق الإنسان وضحايا مؤامرة سياج مليلية… فإن أمام فرنسا متسعا من الوقت لإفراغ كل ما لديها من قديم أو جديد من الخدع والتضليلات والإساءات، وإلى أن تفرغ منها نهائيا، فإننا ننتظر ماكرون أو من سيعقبه، إن طال حبل المؤامرة وامتد، لاستقباله والجلوس إلى طاولة حوار الأصدقاء والشركاء عن صدق الصداقات الحقيقية وعمق الشراكات الاستراتيجية، وعن الملفات الحقيقية لهذه الشراكات الواعدة، وليس كما تتوهم فرنسا بالعودة إلى البهرجة الإعلامية وإلى ما كان من علاقات طبيعية بين البلدين، بل بالذهاب أبعد منها، وهي القطيعة مع هذه العلاقات المسمومة، وبناء علاقات جديدة جدية وندية واضحة ومتوازنة لا مكان فيها للضباب والرماد والغموض والمساومة والابتزاز والغطرسة والطعنات الغادرة. أما الفضائح التي تختلقها أوروبا عن مغرب غيت وقطر غيت، وتتبارى في توزيع الأدوار ورفع سقف التضليل وطمس الخلافات الجوهرية بها، فهي تدين أوروبا قبل غيرها، لما تكشفه من وجه قبيح لتجار النفاق ولحضارة متوحشة تمتلك آليات للدعاية والتضليل والمحاسبة والمعاقبة والتدمير، وصناعة رأي عام عالمي مشوه القيم ومحرف الحقائق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق