إفريقيا قادمة
بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
فتح المنتخب الكروي المغربي في مونديال قطر، الباب على مصراعيه للحلم النهضوي الإفريقي وكذا العربي والجنوبي، وهو الحلم الذي ظل عرضة للتأجيل والتعطيل واستحالة التحقق بفعل عوامل دولية أبرزها هيمنة القوى الكبرى، وعوامل نفسية أهمها الإحباط والإقصاء واليأس وثقل الإخفاقات المتواصلة… وما كان أحد يتصور رغم الكفاءات الإفريقية والعربية المشاركة في المونديال أن بإمكان فريق إفريقي أو عربي أن يتخطى حاجز ثمن النهاية، فإذا بالفريق المغربي يرفع التحدي ويبعث الأمل والبريق في عيون ملايين العرب والأفارقة بتخطيه لثمن ولربع النهاية ودخوله للمربع الذهبي بقوة وببسالة وبعزة نفس، فانحلت بعد ذلك العقدة وأبطل السحر والنحس، وكُسرت الصور النمطية وهُزم اليأس والإحباط بالضربة القاضية، فما كان للطاقات الإيجابية المحبوسة والمصفدة إلا أن تتدفق بمشاعر الفرح والحبور والفخر والاعتزاز والجنون لدى الشعوب والدول التي ركنت إلى فتات الحضارة وإلى الرضى بالمراتب الدنيا، ومغادرة الميدان، على أبعد تقدير، في ربع مسافة الطريق.
بوصول المنتخب المغربي إلى ربع النهاية وإلى نصفها، لم يعد فريقَ بلده فحسب وإنما فريق كل العرب وإفريقيا ودول الجنوب، التي قدم لها هذا المنتخب نموذجا وقدوة في العزيمة والإصرار والثقة والأمل في التغيير نحو الأفضل والأرقى، ليس فحسب في الرياضة وإنما في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والأخلاق. لقد تحدى الفريق المغربي كل عوامل الإحباط وعول على قدراته الذاتية الإبداعية في صناعة النصر وبث طاقة إيجابية وثقافة نبيلة وإنسانية في صفوفه ومع مشجعيه وجماهيره، إلى درجة التلاحم والتماهي مع كل الأحلام الموءودة والجراح النازفة والطموحات المجهضة، حيث أقامها من أجداثها، وضمدها لينطلق بها في طريق التحدي والبطولة، قد لا تشعر بكل هذا، الشعوبُ والدول المهيمنة والمتخمة بالمنجزات والانتصارات التاريخية على الفقر والجهل والحرمان والخصاص، لكن شعوبا لازمتها منذ الحملات الاستعمارية الإمبريالية العديد من الانتكاسات والإخفاقات، شعرت أمام اللحظة المغربية أو الاستثناء المغربي أو الظاهرة المغربية، كما سماها عدد من المعلقين الرياضيين في هذا المونديال، أن بإمكانها أن ترفع منسوب الأمل في تجاوز العثرات وسد الثغرات والانبعاث من رماد الهزيمة والإخفاق.
لقد أزاح المنتخب المغربي من فوق ظهور الشعوب المحرومة من فرصها في التنمية والفرحة والمنافسة حملا ثقيلا من الإحباط التاريخي، ومنحها الثقة والأمل في التغيير، ومهد الطريق في هذا المونديال، ورسم السبيل، وسلم، برأس مرفوعة، المشعل الوقاد والوهاج لإفريقيا وللعالم العربي لصناعة انتصارات قادمة في كل المجالات التي تتوفر فيها لهذه المنطقة من العالم كافة الإمكانات والموارد البشرية للأخذ بزمام المبادرة وحسن استثمار المكتسبات ومواجهة القوى المعاكسة لنهضتها ونمائها، وتأكيد أن لا سقف ولا حدود لطموحاتها المشروعة والعادلة، كما أكده المنتخب المغربي عن جدارة واستحقاق حينما رفع سقف تحدي الكأس الكروية، وشق طريقه إليها وكان قاب قوسين منها أمام دهشة العالمين وتساقط المشككين والمنكرين. لم يفز الفريق المغربي بالكأس في هذه المحاولة الجبارة، لكنه فاز بتعاطف كل الشعوب التواقة إلى كسر قيود الإحباط والهيمنة والتيئيس والتحقير، وانتصر على كل معاول الهدم والاستصغار والتنقيص، وأبان على أن المستحيل ليس بالحتم والضرورة مغربيا ولا إفريقيا ولا عربيا، وأن بالإمكان إبداع أحسن مما كان بشيء من الوعي الإيجابي، والصبر والمثابرة، والصمود والعمل على التغيير وتحدي الصعاب، والثقة في النفس، أو بما أسماه الناخب الوطني بـ “النية” مستمدا بذلك طاقة هائلة من المخزون الثقافي والحضاري المغربي الذي لا يزال محرك المغاربة ومحرضهم على مواصلة الصمود والتحدي، وفرض الاحترام لقيمهم ومقدساتهم.
كان منتخبنا الوطني فألا حسنا على بلادنا في ما تنتظره من جني ثمرات مجهوداتها التنموية والديمقراطية والوحدوية التي توجت بإرساء النموذج التنموي الجديد، ورفع قواعد عمرانية ستغير وجه المغرب مستقبلا نحو الأفضل والأجمل والأروع، وكان فألا حسنا على أمته العربية والإسلامية وعلى قارته الإفريقية خاصة في ما ترومه من كسر الطوق عنها، ووضع حد للمؤامرات التقسيمية والتجزيئية والاستغلالية والاجتياحية لترابها وثرواتها ومستقبل أبنائها… إنها دلالات رمزية كبيرة لحدث مهما بدا صغيرا ومعزولا ومحدودا في مجرد لعبة رياضية وكرة منفوخة بالهواء والخواء، ولكنه في ميدان المبارزة والمنافسة والاحتكاك يصير امتحانا كبيرا للشعوب والأمم ولطاقاتها، بل تقويما لمنجزاتها التي يعكسها كل قطاع من قطاعاتها الإنتاجية والإبداعية التي تعتبر القوة الرياضية جزءا من قواها.
فهنيئا مرة أخرى لفريقنا الوطني المغربي ولنخبتنا الرياضية على هذا التشريف لبلدهم ولأمتهم ولقارتهم، وهو التشريف الذي سيصير قطعا تكليفا لكل القوى العاملة والفاعلة في البلد والأمة والقارة، وعلى رأسها حكومات ومسؤولون ومجتمع مدني لاستثمار هذا التشريف، وعدم الرضى بأقل مما حققه الفريق المغربي الذي رفع تحدي نصف النهاية في هذه البطولة الكروية، ورفع معها أيضا تحدي نصف النهاية للوصول إلى المربع الذهبي الآمن للتنمية المستديمة التي تتطلع إليها الشعوب الرازحة تحت سطوة الهيمنة على مقدراتها وثرواتها.
إنها معركة متواصلة من أجل ضمان مقعد مستحق بين الأمم والدول والشعوب التي عرفت كيف تدخل إلى التاريخ من بابه الواسع والواعد في كل المجالات، ومن حق عالمنا العربي والإفريقي أن يدخل هذا التاريخ مجددا بكل ما يملكه من كفاءات وإمكانات وموارد، ورصيد من الإنسانية النبيلة والأخلاق الرفيعة التي لا تقل عما تملكه منها أمم ودول وشعوب من العالم المتقدم.
القادم أفضل، فلنتعرض لنفحاته ولفحاته، ولنكن في الموعد معه بالعمل ثم العمل ثم العمل، ولنستثمر جيدا هذا الانتصار الرياضي التاريخي وهذه الأجواء من التعبئة والتضامن والتقارب والتعاطف لزيادة منسوب الطاقة الإيجابية في بلادنا وأمتنا وقارتنا، ومنسوب الثقة في غد أفضل للعيش الكريم والتنافس الشريف والاحترام المتبادل.