قضايا وآراء

روح حضارية ورياضية عالية

أبهرت كل من دولة قطر والمملكة المغربية العالم بتلك الروح الحضارية والرياضية العالية والعالمية في مونديال 2022. البلد الأول من حيث التنظيم والأداء التدبيري، والبلد الثاني من حيث المشاركة والأداء الرياضي. ورغم أننا لا زلنا في بداية فعاليات كأس العالم، فإن الصورة المشرفة والمشرقة التي قدمتها دولة قطر الشقيقة عن قدراتها وإمكاناتها الإبداعية في صناعة الحياة والفرح، ليس الإمكانات المادية فحسب وإنما الإنسانية والأخلاقية والحضارية قبل كل شيء، وذلك في أكبر تجمع جماهيري عالمي مليوني، كسرت الصور النمطية الغربية عن الدول العربية والإسلامية التي يقدمها إعلام وساسة الغرب عن عالم غارق في التخلف والتخبط والفوضى، ومصدر القلاقل والحروب والإرهاب والعنف والكراهية.
لقد صنعت دولة قطر الشقيقة فرحة الملايين الذين حجوا إلى الخليج العربي وإلى دوحة قطر، فضلا عن مئات الملايين من المتابعين عبر الشاشات في أرجاء العالم، والذين استمتعوا بمتابعة مشاهد غير مسبوقة في التدبير الحضاري والثقافي والتكنولوجي واللوجستيكي والأمني لهذا الحدث الدولي الكبير الذي توجهت إليه الأنظار من كل حدب وصوب. وهذا النجاح الباهر والمتصاعد مع مرور الأيام المخصصة لهذا المحفل الدولي، جعل العالم بأسره يراجع تلك الصور النمطية السلبية والظالمة عن عسر، بل استحالة اندماج العرب في المجتمع الدولي، وعجزهم عن التلاؤم مع القيم الإنسانية الكونية المشتركة وقبول الآخر والاعتراف بحق الاختلاف. فالجماهير الغفيرة القادمة من كل الآفاق والأديان والثقافات والأعراق والطبقات، وجدت نفسها في قطر تتقاسم هذه القيم الحضارية المشتركة وتستظل بها، وما من مكان تنتقل إليه في الدولة الشقيقة سوقا شعبيا أو ملعبا أو ساحة أو شارعا أو مؤسسة أو بيتا، إلا ووجدت عبق تاريخ من التعايش والسكينة يفوح شموخا وعزا، وشاهدا على أن الأمة العربية، بمقدساتها وتقاليدها وحضارتها، لا يمكنها إلا أن تكون عامل سلام واستقرار وأمن وأمان للشعوب، فقد تُركت الجماهير المختلطة على سجيتها في التنقل والزيارة، وعلى عفويتها في التعبير وترديد الشعارات الحماسية والتشجيعية لفرقها المفضلة، وعلى طبيعتها وحريتها في إعلان الفرح والسعادة، ما لم يكن في السلوك ما يشينه من عدوان أو إساءة أو خدشا للحياء، أو خروجا عن الأهداف والقيم الرياضية الكروية الفضلى والمثلى في التربية على التنافس الشريف واحترام قواعد اللعبة، وعلى رعاية صحة الأبدان والحفاظ على اللياقة البدنية والنفسية، والتدريب على تحمل المسؤولية والاندماج في العمل الجماعي، وعلى قبول النتيجة والاعتراف بالآخر المنافس، وتقوية العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وتعلم آداب التواصل والحوار مع الغير، وغيرها من الأهداف والقيم المثلى التي تأسست عليها الألعاب الرياضية، وجسدها التدبير القطري أيما تجسيد.
رفعت قطر سقف التحدي في تنظيم هذه النسخة الثانية والعشرين من كأس العالم لكرة القدم، وأبرزت أجمل ما لديها ولدى الأمة العربية من حاضنات حضارية ورافعات عمرانية وإنسانية وأخلاقية لصناعة السلام والأمان في العالم، بكل الجدية والمصداقية والثقة في النفس، والعزم والحزم في التدبير، فعبدت بذلك الطريق أمام دولنا العربية والإسلامية لمنافسة الدول الكبرى والمهيمنة في ساحة تنظيم هذه الكأس، بل جعلت السقف المرفوع في هذه النسخة القطرية تحديا من الصعب بمكان تجاوزه حتى من قبل الدول الكبرى المتقدمة المؤهلة لتنظيم هذه الكأس مستقبلا. أن تكون قطر مصدر إلهام في هذا الحدث الدولي الكبير هو مفخرة لكل الأمة العربية من الخليج إلى المحيط، ودرس في التحدي والتجاوز الذي أخرس كل ألسنة السوء التي راهنت على الفشل وعلى خسارة قطر رهان التنظيم، فجاءتها النجاحات الساحقة متصاعدة من رهان التنظيم إلى رهان التأمين إلى رهانات حسن المعاملة وكرم الضيافة وسلاسة التدبير ومرونة الاستقبال وبث الطاقة الإيجابية في جماهير قادمة من أصقاع الدنيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، تتعارف وتتقارب وتتمرن على التعايش في قرية عالمية صارت عاصمة الدنيا، ومركزها الإشعاعي ومرجعيتها ونموذجها في تجسيد حضارة القرن الواحد والعشرين بكل أبعادها الروحية والمادية.
هذا عن تحطيم دولة قطر المنظمة، قمةً وقاعدة، لكل الصور النمطية السلبية المسيئة للأمة العربية ولشعوبها، وعن نجاحها الباهر في صناعة صورة جديدة مغايرة عن أمة ناهضة ومتجذرة في الحضارة والتاريخ والقادرة على خلق الفارق في صناعة الحياة وتعمير الأرض ونشر السلام. أما عن الحدث الثاني الذي أبهر العيون وأثلج الصدور ورفع تحديا عربيا وإفريقيا آخر سيسهم لا محالة في تكسير الصور النمطية السلبية عن مستوى الرياضة بهذه العوالم الثالثية، فهو الدخول القوي والجميل للفريق الوطني المغربي في غمار المنافسة، وللجمهور الرياضي المغربي وتوغله برفق في هذه البطولة. فالفريق الوطني المغربي بجمهوره الكبير الحاضر في قطر والنشيط في كل المواقع، أبهر بأدائه الرائع وفوزه المستحق خلال هذه المحطة الأولى من عمر المنافسات، التي كان فيها النجمَ العربيَّ والإفريقي الصاعد والشامخ، الذي تقاسمت كل الشعوب العربية والإفريقية معه فرحته، وعبرت عن مبلغ اعتزازها به وفخرها بحسن تمثيله، ليس فحسب لبلده، بل لأمته العربية وقارته الإفريقية، وتعولان عليه ليرفع رأسهما عاليا في سماء المونديال بعد البشائر التي حققها والأداء المتميز أمام فرق أوروبية عريقة رفعت له التحية والقبعة. فإلى جانب الفريق الكروي المغربي العالمي، كان ثمة جمهور مغربي يعد بالآلاف حج إلى قطر الشقيقة، وقدم أروع الصور المرحة الفرحة والإيجابية عن مستوى الوعي الرياضي الوطني، وعن المستوى الحضاري والأخلاقي في التضامن والتعارف ودعم الدولة الشقيقة المنظمة بالحضور المكثف والانضباط والاحترام، ورفع درجة الحماس والتشجيع، وترديد الشعارات البناءة في الملاعب، والأهازيج الغنائية والرقصات والأفراح في الساحات والأماكن العمومية ومراكز التجمعات، وقد قدم هذا الجمهور أروع اللوحات التشجيعية والفنية والتقديرية إلى جانب جماهير الشعوب الأخرى وعلى الخصوص الشعوب العربية والإفريقية، وأروع الدروس في الانسجام والتبادل الثقافي والتعاطف.
تقديرنا البالغ لكل من أسهم في هذا العرس الرياضي العالمي المتواصل الأفراح، ولكل من عبر عن صفاء معدنه وعن مستواه الثقافي والحضاري الرفيع، ومثل شعبه وأمته أحسن تمثيل. ولا عزاء لفلول من الحاقدين والموتورين والشاذين عن الإجماع الإنساني، الذين أغاظهم أن تنتصر قيم التآخي والصداقة والمنافسة الشريفة، ومتمنياتنا لهذه الطاقة الإيجابية في التنظيم الباهر والمشاركة المتميزة أن تعلو وتسمو، وأن تصبح نموذجا مرجعيا حضاريا وأخلاقيا يكون مبعث فخر الأجيال الجديدة للأمة بمكتسباتها وبرصيدها المشرف بين الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق