أثارت القمة العربية المنعقدة بالجزائر في بداية الشهر الجاري الكثير من التعاليق، ركزت كلها على الفعل ورد الفعل بين المغرب والجزائر قبل انعقاد القمة وبعدها، وذلك بسبب اعتراض المغرب على ما كانت تخطط له الجزائر لتمرير مخططاتها وفرض أجندتها وقراراتها مسبقا على الدول العربية قبل انعقادها، لولا يقظة المغرب الذي أجهض هذه المخططات وأسقط أجندتها، وفرض شروطه الموضوعية والقانونية للمشاركة قبل بداية انعقاد جلسات القمة، وذلك لما لها من أبعاد، كانت نتائجها ستنعكس على العلاقات المغاربية العربية، بل وحتى على منظمة الاتحاد الإفريقي باعتبار أنها تضم ثمانية دول عربية دول من القارة الإفريقية، حيث كانت الجزائر تخطط ــ حتى ولو أنكرت ذلك ــ لحضور ميليشيات “البوليساريو” في هذه القمة، وكان معنى ذلك ــ لو تحقق ما كانت تخطط له ــ أن الدول العربية في حال ما إذا قبلت بحضور “البوليساريو” التي لم تأل الجزائر جهدا لحضورها في هذه القمة، كانت ستمنح للبوليساريو صفة الدولة العضو داخل الجامعة العربية، وهو ما كان سيزكي وجودها داخل الاتحاد الإفريقي، وذلك بعد أن تكون قد كسبت اعتراف 22 دولة عربية، لو أنها لم تصطدم بموقف المغرب الرافض لهذه اللعبة القذرة عن طريق ممثله في هذه القمة السيد ناصر بوريطة، والذي أبدى إصراره أيضا وقبل بداية انعقاد الجلسة على إدراج التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية، حيث رفض وزير الخارجية الجزائري في البداية إدراجها، غير أن الرد الذي جاءه من الوزير المغربي كان قويا، عندما ذكره بأنه ليس له الحق في أن يقبل أو يرفض، لأن القمة هي قمة الجامعة العربية وليست قمة الجزائر، والاعتراض على هذه النقطة يبقى من اختصاص الدول الأعضاء وليس خاضعا لمزاج وزير خارجية الجزائر .
لقد شكل غياب جلالة الملك محمد السادس عن القمة العربية صدمة بالنسبة للجزائريين ولعدد كبير من نشطائها من الذين يسبحون في فلك النظام، والذين كانوا يعتقدون أن جلالة الملك سيشد الرحال إلى الجزائر ليقابل مسؤوليها، أبرزها تلك التي صدرت عن محيي الدين عميمور، في الموضوع الذي نشره على منبر “رأي اليوم” تحت عنوان “جات من عندك يا جامع” حين رأى بأن غياب جلالته عن القمة قد أسقط الوهم الجزائري الذي روج له سفهاء الإعلام الجزائري بأنه كان يستجدي الجزائر من أجل تذويب الخلاف بين البلدين، وأن ما كان يأمله هذا الإعلام هو ومن يدور في فلك هذا النظام قد بدأ ينهار، ومن أجل إنقاذه اختارت الجزائر واحدا من أهم تواريخها الوطنية لعقد القمة “لتجعل منها رسالة واضحة محددة تقول للوطن العربي بأن الثورة الجزائرية كانت في مرحلة معينة رمزا شامخا لجيل عربي رائع التف حول الثورة ودعم كفاحها وجعل منها صلب وحدته ومصدر عزته ورمز كفاحه، وستظل دائما كذلك بالنسبة لكل الأحرار”.
ما يستوقفنا في هذه الفقرة ، أنه يقول بأن الجزائر قبلت بعقد المؤتمر، واختارت له هذا التاريخ، حتى وهو يعلم أنها لم تقبل، ولم تختر، بل هي التي سعت إلى عقده، وكان من أول أهدافها أن يصبح تاريخ انعقاد مؤتمرات القمة العربية مرتبطا بتاريخ ثورتها، وتحويله إلى يوم احتفالي بهذه الثورة على صعيد العالم العربي، لتضع لها قدما في التاريخ بين الدول العريقة، إذ ما زالت تبحث عن هويتها التاريخية التي ضاعت بين الاحتلال العثماني الطويل، والاستعمار الفرنسي، وبعد أن مسخ لصوص هذه الثورة حقيقتها وأهدافها والأرض التي انطلقت منها، والدولة التي وقفت إلى جانبها، واحتضنت رجالها، ووضعت لبنة مؤسساتها، ودربت جيشها، وجلبت لها الأسلحة، واحتضنت إعلامها المقروء والمسموع، كما تشهد بذلك وثائق المخابرات الإسبانية والفرنسية، وغالبية قادتها الحقيقيين من الذين تم اغتيالهم أو تنحيتهم في مرحلة اشتد فيها الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، فاختار بعض قادتها الانخراط في الكتلة الشرقية التي “كانت تراهن على بعض الخيول الشيوعية العربية التقدمية في الوطن العربي، لتواجه بها خيول الرجعية العربية المحسوبة على الاستعمار البريطاني، وكانت خيول الشيوعية العربية خيولا هزيلة لا تجيد حتى اللغة العربية المعقولة، لأنها كانت من أنصاف الأميين، وذلك حسب التعريف الذي أطلقه عليها “مايلز كوبلاند” في مقدمة كتابه “لعبة الأمم”.
إن ما ذهب إليه السيد محيي الدين عميمور، لا يخرج عن كونه تضليلا للرأي العام الجزائري، باعتبار أنه من بين الذين يعرفون خبايا وأسرار تاريخ الثورة الجزائرية، وبدلا من أن يقدم لنا رؤية تاريخية موضوعية أو يطرح مع مثقفي وأحرار الجزائر، حلا للأزمة القائمة بين المغرب وأسبابها التاريخية والسياسية الحقيقية، اختار أن يلقي التبعية على فشل أي تقارب ممكن بين المغرب والجزائر على جلالة الملك وعلى ناصر بوريطة الذي قال عنه بأنه شخص لا يكن أي ود للجزائر، في حين أن العكس هو الصحيح، لأن قادة الجزائر الحاليين، والبعض ممن سبقوهم، هم الذين اختاروا حفر خندق الكراهية، وعملوا دائما على التنكر للماضي المشترك الذي ربط شعبي البلدين في مواجهة الاستعمار، واتهام النظام المغربي ومنذ السنوات الأولى من الاستقلال بالتآمر على الجزائر وثورتها، وتجريده من كل فضيلة تسجل له أنه كان رائدا من رواد الحركة التحررية في إفريقيا.
غير أنه وتزامنا مع انعقاد القمة جاءت الجائزة الإفريقية التي منحتها إثيوبيا لجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني نظير تفانيه في توحيد إفريقيا وتحررها، لتسقط الأطروحة الجزائرية التي تسوق للجزائر أنها الرائدة الوحيدة للحركة التحررية في منطقة المغرب الكبير، متجاهلة بأنها لن تستطيع إخراس التاريخ، الذي يبرز الدور الذي لعبه المغفور له الملك محمد الخامس بمعية الشعب المغربي في تحرير الجزائر، والتوجه نحو تحرير إفريقيا، فكان أن وضع الحجر الأساس الأول لتوحيد هذه القارة في لقاء الدار البيضاء مع أقطاب إفريقيا في يناير من سنة 1961 ، بحضور رئيس مالي “موديبو كيتا” آنذاك والغيني “أحمد سيكوتوري” و”جمال عبد الناصر” والرئيس الغاني “قوامي نكروما” والإمبراطور الإثيوبي “هيلا سيلاسي” و”فرحات عباس” رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، وممثل الملك الليبي إدريس السنوسي “عبد القادر العلام” فتولدت من هذه القمة المصغرة، منظمة الوحدة الإفريقية، وتم التوقيع على ميثاق للقطع مع القوى الاستعمارية، وكانت تلك أول خطوة عملية قادت إلى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، بحث فيها المجتمعون مشكلات الحدود بين الدول الإفريقية، وبقيت قضية الحدود المغربية الجزائرية عالقة إلى حين استقلال الجزائر، والتي لا زالت ترفض رسمها طمعا في ضم أراضي أخرى عن طريق خداع المجتمع الدولي في قضية الصحراء المغربية بدعوى أن هناك شعبا يطالب باستقلاله، لتأتي بعد ذلك ليبيا القذافي وجزائر بومدين بعد أن انسحب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، ومعهم دول إفريقية أخرى لم تكن واعية بالمؤامرة الكبيرة التي ينسجونها ضد المغرب وضد إفريقيا، وهم يكرسون فيها عناصر التفرقة بدل الوحدة، وبدأوا يزكون الانقسامات داخلها وشرعوا في تقسيمها، وكانت النتيجة أنهم رهنوا دول هذه القارة في التبعية الاستعمارية ضدا على مبادئها. وما يؤكد ذلك هو ما صرحت به في الأيام الأخيرة رئيسة إيطاليا الجديدة اليمينة، وهي توجه خطابها إلى ماكرون، مطالبة إياه أن ترفع فرنسا يدها عن إفريقيا، متهمة إياها بأن سياستها تجاه هذه القارة هي التي تقف وراء هجرة الأفارقة، قائلة “بأنه من المقرف، أن تستمر فرنسا في استغلال إفريقيا عبر طباعة النقود لـ 14 بلدا إفريقيا تفرض عليهم رسم سك العملة، وعبر تشغيل الأطفال في المناجم واستخراج المواد الخام، مثلما يحدث في النيجر، حيث تقوم فرنسا باستخراج 90 في المائة من مواد اليورانيوم التي تحتاجها لتشغيل مفاعلاتها النووية، في حين أن 90 في المائة من سكان النيجر يعيشون بدون كهرباء، مما يجعل الأفارقة يهجرون قارتهم بسببها، فالحل ليس هو نقل الأفارقة إلى أوروبا، بل تحرير إفريقيا من بعض الأوربيين”.
وحين يصدر مثل هذا الكلام عن رئيسة دولة أوربية، وهي تحاول أن توهمنا أنها ستعمل من أجل تحرير الإنسان الإفريقي، فماذا بقي للجزائر أن تقول؟ أولم يكن من الأجدر بقادتها (القوميين والمجاهدين) أن يكونوا هم الذين يعملون من أجل تحرير أفريقيا، بدلا من إغراقها في وحل المنظمات الإرهابية التي تنشط في الدول الإفريقية، وتضع يدها في يد المغرب الذي سبق وأن قلنا بأن سياسته عبر كل قرون التاريخ، وإلى يومنا هذا، كانت تسير عموديا وليس أفقيا، حيث ظل وفيا للمبادئ التي تأسست من أجلها منظمة الوحدة الإفريقية فجعل من أولوياته السياسية والاقتصادية والروحية كذلك، تحرير إفريقيا، وتكريم الإنسان كما جاء في خطاب جلالة الملك بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، وهو ما يزعج فرنسا والدول الاوربية الأخرى، التي بدأت تفقد مواقعها في القارة الإفريقية، دون أن ننسى التمدد الإيراني عن طريق نشر التشيع في القارة، مما يوفر لها موطئ قدم فيها، لا تختلف أهدافها عن أهداف الدول الاوربية، التي تلعب دور دركي الإسلام والمسلمين، وقررت أن تنوب عن الدول الاستعمارية في محاولة ضرب المغرب، بتحالف مع الجزائر، تحت غطاء تقرير مصير”البوليساريو”.
وهنا أسال السيد عميمور، ألم يكن من الأجدر بالجزائر أن تناصب العداء لفرنسا التي يتظاهر فيها الآلاف من الجزائريين ضد النظام القائم في الجزائر، والتي تحتضن حكومة القبائل؟ أو لم يكن من الأجدر بها أن تمد يدها إلى المغرب، وتتجاوز توترات الماضي ومخلفاته، وأن تحترم التزاماتها واتفاقياتها مع المغرب، خصوصا في ما يتعلق بمنجم الحديد “غار جبيلات” حيث سبق لها وأن وقعت في عهد بومدين مع المغفور له الحسن الثاني اتفاقية تقضي بالاستغلال المشترك لهذا المنجم، ثم انقلبت عليه وأرادت أن تستغله مع الصين، غير أن هذه الأخيرة رفضت الانخراط في هذه الشراكة بسبب التزامات هذه الاتفاقية، لأنها دولة تعرف معنى الاتفاقيات والالتزامات.
وأخيرا، أقول للسيد عميمور، إذا كانت الحسرة قد أصابتك لعدم حضور الملك إلى القمة في الجزائر، فإن تفسير ذلك يكمن في كون الجزائر لا تحترم المواثيق ولا الأعراف الديبلوماسية، كما أنه لا يثق في قادة دولة لم يتورعوا في تصفية بعضهم البعض، وليس المغرب من يرعى منظمة إرهابية فوق أراضيه، ولا من يبحث كيف يتخلص منها، لأنها توجد في منطقة خارج حدوده الحالية.
وكان الأجدر بالجزائر أن تغتنم فرصة “مقترح الحكم الذاتي المغربي” للأقاليم الصحراوية للخروج بأقل الخسائر الممكنة ولحفظ ماء الوجه، خصوصا وأن هذا الحل قابل للتنفيذ وواقعي وذو مصداقية. وسيعزز تطلعات الشعبين المغربي والجزائري لإنهاء النزاع المفتعل بدون غالب أو مغلوب، بل بتوجه إلى المستقبل الآمن، بطموح وحدوي وتنموي ستستفيد منه منطقتنا المغاربية والمتوسطية والإفريقية، غير هذا تأجيج النزاع وتجييش العواطف وزرع الكراهيات وتزوير التاريخ، فلن ينتج إلا رهن الأجيال القادمة بالشتائم واللعنات والإحباطات والمؤامرات التي تستثمر فيها المنظمومة الاستعمارية لبسط نفوذها وسيادتها على ثروات الشعوب ومستقبل أبنائها.