المنجزات والتطلعات

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
من بين أهم مميزات المسيرة التحريرية والتنموية المغربية أنها لا تكثر الضجيج حولها، ولا تقف عند محطات خالدة لتمجدها وتجمد عندها، وتركن إلى ظلالها، وإنما تمضي نحو أهدافها المستقبلية وآفاقها المفتوحة، بطموح خرافي وخارق إلى إنجاز التحولات الكبرى التي تراهن عليها. وهكذا من سنة إلى أخرى ومن ذكرى إلى ذكرى، تجد هذه المسيرة نفسها وقد قطعت المسافات دون توقف، مراكمة نجاحات ومحققة مكتسبات، ستكون كلها في تكاملها واندماجها مهاد الأمل في غد أفضل يترجم بالفعل مقولة: “مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس” في إشارة لا إلى قطيعة، وإنما إلى سيرورة من التحولات والتطورات الإيجابية في إطار استمرارية للنفَس الملحمي والبطولي للأجداد والأمجاد.
ولأن هذا الوعي هو ما يؤسس الذاكرة الجماعية المغربية في احتفاظها بالإيجابي والمنتج والمربح والنافع في أعمال الناس وعلاقاتهم ومشاريعهم، فإن الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة، واصل التعبير عن هذه الملحمة التاريخية بلغة المنجزات الجديدة والوعود المحققة والأرقام الشاهدة، وفي الآن نفسه بسط أهم المبادرات الكبرى الواعدة التي ينتظر أن تستكمل جميع حلقات إرسائها وانطلاقها، ويتوقع منها أن تغير ملامح المغرب الصاعد ليكون وبدون منازع قطب السلام والاستقرار والتنمية والتبادل الاقتصادي في هذه المنطقة الاستراتيجية العالمية، التي يشكل فيها المغرب جغرافيا وتاريخيا جسرا للعبور والمرور بين ضفتي المتوسط والأطلسي، ومركزا محوريا في طريق الحرير الصيني الجديد العابر للقارات.
لهذا حرص الخطاب الملكي بمناسبة إحياء ذكرى المسيرة الخضراء المجيدة، على الانتقال من التاريخ إلى صناعة التاريخ ببيان نسب تقدم المنجزات التنموية البارزة في الصحراء المغربية بعد التحرير، وعلى رأسها تنزيل حزمة من المشاريع الكبرى التي غيرت المعطيات الاقتصادية والعمرانية المحدودة في المنطقة، ونقلتها إلى وضع متقدم في ظرف زمني وجيز، كان المغرب فيه يقود معارك على واجهتين إحداهما سياسية وديبلوماسية والأخرى اقتصادية واجتماعية، نجح بقوة وتفوق كبيرين في كسب رهاناتها مجتمعة.
وفي هذا الإطار ذكر الخطاب الملكي السامي بالبرنامج التنموي المندمج لأقاليمنا الصحراوية المسترجعة والذي أعطيت انطلاقته عام 2015، بغلاف مالي يتجاوز 77 مليار درهم، حقق في مدة سبع سنوات أهدافه والتزاماته بنسبة 80 في المائة، وشمل إنجاز مشاريع الطريق السيار تيزنيت الداخلة، أحد أهم مشاريع الربط الطرقي في شمال إفريقيا، ثم مشاريع الربط الكهربائي والربط بشبكات الاتصال، ومشاريع الطاقة النظيفة المتجددة الشمسية والريحية، هذا فضلا عن الشروع في إنجاز إحدى أكبر المعالم التنموية والحضارية بالمنطقة، ألا وهو مشروع ميناء الداخلة الأطلسي الواعد بدخول الصحراء المغربية عهدا جديدا في انفتاحها التام على العالم وعلى عمق المغرب الإفريقي… هذا وقد عرفت مختلف المشاريع والأوراش المبرمجة في إطار البرنامج التنموي للأقاليم الصحراوية على الصعيدين الاجتماعي والثقافي وعلى الصعيدين الفلاحي والصناعي، نسبا عالية من التقدم في تثمين الموارد البشرية والثقافية والطبيعية بالصحراء، مع التطلع الكبير إلى مواصلة دخول القطاع الخاص غمار الدينامية الاستثمارية في هذه الأقاليم، خصوصا في القطاعات الإنتاجية الواعدة التي تتوفر المنطقة على شروطها وضمانات نجاحها وربحها.
هذا بعض من المنجزات التنموية الكبرى التي كرست الاستقرار بأقاليمنا الجنوبية، ووفرت بنيات تحتية وشروطا داعمة لجذب الاستثمارات وتأمين الحياة والعمل لمستقبل آخر ممكن للعيش الكريم في الصحراء، لا يقل عن أي مستقبل منشود في المناطق الخضراء بالمملكة. وفي هذا السياق جرد الخطاب الملكي أهم التطلعات المستقبلية للبلاد للوفاء لروح المسيرة الخضراء، بالوفاء بالتزامات المغرب القارية والدولية من أجل النهوض بالتعاون والشراكة الدولية رابح – رابح، ستكون أقاليمنا الجنوبية جسره الرابط بين المغرب وعمقه الإفريقي، وإحدى هذه التطلعات هو المشروع الكبير لأنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، الذي صار بعد ست سنوات من المشاورات والدراسات مؤهلا بالموثوقية والمصداقية اللتين حفتا به لتنزيله على أرض الواقع، حيث بشر جلالته بالتقدم السريع والمتواصل في بناء هذا الصرح المغربي الإفريقي، الذي سيربط الحاضر بالمستقبل، والدول والشعوب ببعضها، قبل أن يربط اقتصادات القارتين الإفريقية والأوروبية.
إن الشفافية التي أدار بها المغرب ملف هذا الأنبوب الغازي، بالتعاون مع نيجيريا ودول غرب إفريقيا، وعلى رأسها السينغال وموريطانيا، والقوة الإقناعية التي خاض بها مفاوضاته بشأنه، قطعتا دابر كل الشكوك والمزايدات التي بلغت حد التهكم والسخرية عند من توقف بهم التاريخ في منصة التفرج وفي زقاق ضيق ومسدود ملؤه العجز والغرور.
مشاريع منجزة على أرض الواقع الصحراوي المغربي ومشهودة للعالم بأسره، وأخرى قادمة تشكل إطارا كبيرا لاحتضانها وخلق تكامل بينها وإمدادها بشرايين الحياة، ذلك هو مغرب اليوم والغد، الذي عرف كيف يستثمر التضحيات والمكتسبات السابقة، ولم يتوقف عندها وعند تمجيدها والدوران حولها، بل تجاوزها وتخطاها بتعبئتها في مسيرة خضراء جديدة نحو العمق الإفريقي حيث تلتقي الطرقات وتمتد القنوات والجسور، وتنفتح أزهار الربيع، وتطوى الأوهام والكوابيس الانفصالية في زمن الربط القاري والوحدة الإفريقية التي يعمل المغرب جاهدا على تحويلها إلى عنوان جديد للانبعاث الإفريقي لعصر ما بعد الاستعمار.