التشكيلي السوري الساعي: تشغلني الهوية وأومن بتكريسها في دروب العمل والإبداع

حاورته فاطمة أبوناجي //
أسماء كبيرة تلك التي يحتفي بها منتدى أصيلة لتشارك تجاربها الفنية والأدبية والفكرية مع جمهور موسم أصيلة الثقافي، فيمتح منها المتخصصون. من هذه الاسماء، التشكيلي السوري المبدع خالد الساعي، أحد أهم الخطاطين والتشكيليين العالميين. نال عشرات الجوائز والشهادات تقديراً لأعماله، ونظم معارض وورش فنية عديدة في مختلف الدول، فضلا عن تدريسه بجامعات كبرى، ضمنها جامعات امريكا. واقتنت لوحاته “الحروفية” المائزة كبريات المراكز والمؤسسات والمتاحف في العديد من البلدان.
“رسالة الأمة” التقت ابن سورية الذي تشرب الفن بين ظهرانيها وسط أسرته الفنية، على هامش مشاركته ضمن فعاليات الدورة 43 من موسم أصيلة الثقافي فكان لها معه هذا اللقاء.

1_ حضرت فعاليات موسم أصيلة الثقافي في دورته الـ 43 حيث شاركت في الورشة المفتوحة التي امتدت لأزيد من أسبوعين، حدثنا عن خصوصية هذه التجربة بالنسبة لك؟
هي تجربة ثرية بالنسبة لكل فنان حظي أو قد يحظى بها. شخصيا، شاركت في موسم أصيلة حوالي عشر مرات، وفي كل مرة ينضاف بعد جديد، وتتلاقح التجارب في هذا المختبر المفتوح للبحث والإسهام والتداول ما بين الفنانين، من مرجعيات وأجيال مختلفة.. كل واحد يطرح فكرة، ويستفيد من أفكار الآخرين وهكذا…
2_ما الذي يختلف في هذه الدورة عن ما سبقها من دورات، برأيك، خاصة مع الجيل الجديد من الفنانين الشباب؟
هذا الجيل المختلف يعد ثروة تحسب لأصيلة، الغنية بعطاءها. في كل سنة تزج إدارة موسم اصيلة بأسماء جديدة من جيل الشباب، يتثاقفون ويتعلمون ويبلورون تجاربهم بالاحتكاك بفنانين آخرين قدموا من كل أرجاء العالم، العربي والغربي، يمتحون من خبراتهم…
المختلف، المستمر في التجدد، أيضا، التنوع التقني، إذ نجد تجربة العمل على القماش وعلى الورق والطباعة والحفر بكل أنواعه والأعمال الجدارية.. كلها أشياء تتيح للفنان الشاب، خاصة من أبناء أصيلة، أن يختصر المسافات والزمن للاحتكاك بتجارب كبيرة، ذات قيمة عالية، تجعله يقطع أشواطا في زمن يسير. وأهم من ذلك أنها تساعده في توجيه بحثه الفني، لأن هناك شباب كثر يشتغلون بشكل مشتت، غير موجه. والفن الحديث توجهات، فهو لا يعني أن يستطيع الفنان رسم وجه أو شكل شجرة أو منظر ما، بل أصبح الفن بحثا من وراءه هدف وله تيمة يعمل عليها..
3_ لنتحدث عن جداريتك “الحروفية” التي وقعتها هذا العام في موسم أصيلة، ما الذي يمكن أن تقوله لنا؟
اشتغلت حوالي 8 ثمانية أيام على هذه الجدارية. لها ثلاثة أبعاد، الأول هو محاورة النص الشعري لشاعر اسمه “نوري الجراح”، وهو أحد الشعراء الذين ساهموا في ندوة الشعر في منتدى أصيلة، وذلك احتفاء بتجربته العالمية، واحتفاء بالشعر بشكل عام. فالنص لم يعد بيننا من لغة ولا ترجمة عن لغة، صمتت كل اللغات.. والقصد هنا معنى إيجابي لا سلبي، فعندما يتحقق الوصال لن يعود هناك داع للغة. وهذا ما يتحقق في مدينة أصيلة التي يحل فيها أشخاص من كل الجنسيات، أحيانا يلتقي أحدهم بآخر ولا يجدان تقاطعا باللغة، فتصير لغة الفن ولغة الجمال اللغة الموحدة (بكسر الحاء)، هذا الفن قد يجمع أيضا شخصان ليس بينهما رابط ولا قبول، حتى إن كانا يتحدثان معا اللغة نفسها أو حتى لغتين اثنين.

4_ ليست اللغة في ذاتها ما يهمك اذن؟
اللغة مهمة، لك البعد الأهم عندي في عملي هو تحويل اللغة من لغة ترتبط بالمعنى والأدب إلى لغة ترتبط بالتشكيل والفن والضوء والصورة والفراغ.
5_وماذا عن فكرة الهوية في استثمارك للحرف العربي في إبداعاتك؟
يمكن أن لا تكون الهوية شاغلا بالنسبة لكل فنان، لكن بالنسبة لي هي شاغل مهم جدا وأومن بتكريسها في دروب العمل والإبداع.
وأسوق هنا مثال تجربة ماركيز، في تمثيله للحارة، المدينة، المحيط الخاص، فهو حين يسلط الضوء عليها تتحول التجربة الخاصة إلى تجربة عالمية، لأنه استثمر برصيد خاص، بهويته.
بالنسبة لي، الحرف العربي مشروع كبير، له بعده وعمقه ودلالته اللغوية. ونعرف جميعا أن اللغة خزان، اللغة هوية، يمكن أن تتعدد الأمكنة والجغرافيا وتختلف الأماكن لكن الوطن الحقيقي يبقى هو اللغة.
ومثال أدونيس، هو ايضا هويته لغته، وإن كان في باريس، ونوري الجراح كذلك، هويته لغته وإن عاش في لندن، فكل منهما يكتب من داخل لغته، منطلقا من تفاصيلها وعوالمها..
6_ هل يمكننا القول إنك انطلقت من اللغة في تشكيلك لأسلوب واتجاه خاص وتحقيق منجزك؟
لم أنطلق من اللغة وحدها، وإنما انطلقت من الشكل، شكل الحرف، لأن للحرف العربي بنية تشكيلية وهو بمثابة بحر. ولذلك كانت لوحتي/جداريتي في أصيلة عبارة عن موجة. والحرف عبارة عن بحر، بحر من التعبير البصري، ولا يرتبط فقط باللغة.
وأستحضر هنا قولا لشاعر فرنسي على دراية باللغة العربية، برنار نويل يقول فيه: “ما من لغة تمتلك خطا تشكيليا يلتصق فيه الشكل بالمعنى مثل اللغة العربية”. وأيضا بيكاسو بقوله الشهير: “أردت الوصول إلى أقصى نقطة في فن التجريد فوجدت الخط العربي سبقني إليها منذ أمد بعيد”.
واستحضاري لهذه الأقوال لا يعني، مع احترامي لهؤلاء الفنانين، أني أعتمد عليها حتى أعطي شرعية لتوجهي، ولكن أنا مؤمن جدا بهذا المشروع وأنا رسام، فنان تشكيلي بالأساس.
بالنسبة لي، الحرف هوية وحالة بصرية متمايزة عن الفنون الأخرى.
7_جميل ارتباطك بالحرف وتشبعك بهويتك العربية وأنت تنتقل من مكان إلى آخر، فما الذي حملته لك أصيلة من جديد، على اعتبار أن لكل جغرافيا خصوصيتها التي قد يتأثر بها الإنسان والفنان خاصة؟
دعيني أقول هنا إن البحر يوحي لي أكثر من ما توحي الأمكنة.. البحر في تبدل مستمر مثل اللغة.. كما يقال اللغة تتمرآى في ماء عابر. بمعنى أنها متجددة باستمرار، فحين أنظر إلى البحر أشتغل على أكثر من لوحة بالحروف. قوافل من الحروف تنهار عند رمال الشاطئ، لكن بعدما تكون قد استنفذت قولها على شكل امواج وغليان بالماء…
أصيلة، أيضاً، منحتني فرصة الإنصات لقراءات جديدة لعملي من طرف فنانين آخرين، فعندما يرى فنان مختلف، إيطالي أو فرنسي أو ياباني أو غيرهم عملي يرى منجزا بصريا مختلفا ويعطيه من خلفيته إسقاطات معينة، فيماثله برواية ما أو قصيدة أو حادث معين أو مكان آخر، يقودني لأن أرى عملي بشكل مختلف، وينبهني إلى أشياء جديدة.
ليست الفائدة فقط على الصعيد التقني وإنما أيضا على مستوى البعد الرمزي والمعرفي.
8_ طيب، إلى أي حد أنت معني بقراءة الآخر لقراءتك للكون من حولك من خلال ما تقدمه لوحاتك؟
كلنا بحاجة إلى عين ثالثة بالإضافة إلى عينيه.. نحتاج شخصا آخر يضيف أو يكرس فكرة ما لدى الفنان.
ويمكنني هنا، ارتباطا بسؤالك، أن أتحدث عن قسم تجربتي مع الطلاب، علما أنني أدرس في جامعات مختلفة، وخصوصا بأمريكا. أعلق مثلا 5 خمسة أعمال وأترك كل طالب يقرأ عملا، وألاحظ كيف أن كل واحد منهم يعلق بشكل مختلف عن الآخر، فأحدهم يربط اللوحة مثلا بمصباح علاء الدين وآخر يربطها بقصة حدثت في الأوروغواي، وأحد يقارنها بشيء من الهايكو، فكل ينطلق من ما لديه وينصت لأثر العمل في مخيلته… الأمر يتعلق إذن بمرجعيات وتأثر مختلف.
أحيانا يقودني هذا الشيء لأني ألتقي بشيء لم يمر علي قبلا، فأحاول أن أستدرك وأكتشف أشياء جديدة، وهذا أمر عظيم، أن تلتقي البشرية في أشياء كثيرة وتثري التجارب بعضها، ذلك أن العمل الفني مثل المرآة، يعكس ثقافة ووعي الآخر.
الخلاصة أن العمل الفني مفتوح للتأويل والتأويل تابع لمرجعية الشخص.
9_ إلى أي حد تتدخل الحالة المزاجية للفنان في تحديد شكل وحجم الحرف في لوحاتك على اختلاف موضوعاتها؟
إذا ما تعلق الأمر بفكرة/موضوع مرسومة معالمه قبلا، فالحروف والكتل الخطية تتبع التصميم الهدف للوحة، لكن ذلك لا يمنع وجود مراحل اكتشاف جديدة، بمعنى وجود هامش للعمل العفوي، في إنجاز هذه اللوحة، كما أن التغيير والانزياح في بعض تفاصيلها ممكن، خلال معاينتها، والأمر هنا متعلق بمزاج الفنان ومعارفه وكذا خبراته.
أما إن كان الأمر يتعلق بعمل ورشة وسياق أداء، فالارتجال هو القائد، وما يهدينا وحي اللحظة من مفاجأة..
وفي اللوحات الكبيرة، كما هو الشأن في الجدارية الأخيرة في أصيلة التي أنجزت في هيئة موجة، كان هناك تفكير وتحديد مسبق واختيار للون المتسق مع المكان المتصل بالبحر، لكن التفاصيل والتجاورات وحجم ولون الحروف ظل متصلا بلحظة الملامسة وبخبرة الفنان ومزاجه، كما ذكرت آنفا.

10_ ماذا يمكن ان تقول لنا عن فكرة تصنيف فنان، حسب جغرافيته، وحين نقول تشكيلي عربي؟
الهوية مسألة فردية، الفنان يجسدها أو يتبناها. مثلا يوجد مروان قصاب باشة فنان سوري كبير، هو امتداد للتعبيري العربية، امتداد لكوكوشكا، لسوتين، لكنه أضاف شيئا من هويته السورية إلى عمله. لمن هو من حيث المبدأ يشتغل بالآلية الأوربية للعمل البصري/ اللوحة. وفي المغرب مثلا فريد بلكاهية، رمه الله هو فنان كبير كان من الأساس يبحث عن اللوحة وكل توابعها ومنجزها وخصوصيتها، في أن تكون لها مرجعيتها، ولا أقصد الهوية العربية، وإنما أن تكون لها خصوصية مغاربية، فاشتغل على الحناء وعلى الجلد وغيره،ونسب كل وجهات النظر الأوربية ثلاثية الأبعاد، فاشتغل على هوية. الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي أيضا اشتغل على الموجة، والقاسمي وغيره من الفنانين كرسوا أن مسألة الهوية فردية ذاتية جدا.
11_ وأنت، ألا تصنف نفسك فنانا تشكيليا عربيا؟
بلى، لكن علي الإقرار أيضا أنه، بشكل شخصي، تصادف أن أحببت الحرف بهذا الشكل، ولم اختر ذلك بداية. وأعتقد أن تأسيسي وتنشئتي الأولى ببيت أسرتي كان لها الدور الأكبر في ما تحقق. أنتمي إلى عائلة خطاطين، بدءا من الأجداد والآباء، وكذلك الإخوة الأكبر الذين اشتغلوا بالفن… الحروف والموسيقى العربية أسياد المكان لدينا.. منذ سن الرابعة كنت معجبا بالحرف، ومنبهرا أمام خطوط أختي وأخي رغم اني لم أكن أعرف ماهيتها بعد.
12_ لنا أن نقول إذن إن وعيك الفني بدأ بالتشكل قبل أن تعي أساسا؟
صحيح، أحيانا الفن يحتاج إلى سند لغوي أو سند معرفي لكي يقف ويتم تفسيره. فالمفهوم يعطي كل الدلالة للعمل. والعمل هو بحث صرف بدون أي تأويل لكن عندما يستمع ويستند إلى هذا النص يأخذ عمقه وتوجهه ودلالته…بالنسبة لي وجدت نفسي مع الحرف بشكل تلقائي، بعدها تكرس الأمر مع مرور الوقت.
وأذكر هنا أنه كان يزور مشغلي بدمشق أشخاص مهتمون بالفن، وكانوا يشاهدون ما أرسمه من وجوه وحارات ومناظر ولوحات تجريدية أيضا، فيتحدثون عن وجود بصمة خاصة، عن شيء مختلف، فساهم ذلك في تكريس توجهي مع وبالحرف.
13_ إذا يمكننا القول إن محيط تنشئتك ثم آراء وقراءات مشاهدي لوحاتك الأولين وجهوا تجربتك لتكون “الحروفية” طريقتك التشكيلية؟
نعم، تلك أمور ساهمت في رسم تجربتي الخاصة، وبعدها كان للقراءة دور كبير في رسم ملامح الفنان الخاصة. ومعروف عني شغفي بالقراءة، ذلك أن القراءة المستمرة والقراءة عن الحرف وقراءة التجارب العرفانية وتجارب التصوف، كان لها دور في تكريس وإعطاء عمق حقيقي لتجربتي الفنية في علاقة بالحرف الذي هو مادة تجريدية، لكنه مادة بصرية في الوقت نفسه.
ومما قرأت أورد هنا تجربة آن ماري شيمل الباحثة الألمانية الشهيرة، في الفن والفلسفة والتصوف الإسلامي.
حين تتأمل اللوحة ترى أن لديها قولا غير مؤطر، فهي تنتمي للتجريد بالإجمال، لكنها تنتمي للتأويل.. والعمل الفني في عمقه له عدة أبعاد وليس أحادي العمق.





