تعبئة الموارد المائية والمالية لمواصلة التقدم
بات الأمنان المائي والمالي بالنسبة للمغرب من أكبر التحديات للمحافظة على النفس التنموي والإصلاحي الكبير الذي أطلقه ملك البلاد، وأرسى النموذج التنموي الجديد معالمه، عبر حزمة من المشاريع الحيوية والهيكلية التي تشكل قاطرة تقدم البلاد وازدهارها، مع التنبيه إلى الأخذ بعين الاعتبار ما يتهدد هذه المشاريع من مخاطر التقلبات الطبيعية والاقتصادية خاصة، كالتي شهدها العالم ويشهدها من تغيرات مناخية وحروب واضطرابات في الأسواق التجارية وأزمات طاقية وصحية… الأمر الذي أخذت مشاريعنا التنموية علما به في السياسات التي تم سنها لتدبير المخاطر، ووضع مخططات استباقية، بعضها يعود إلى عقود من الزمن، وبعضها الآخر جرى تحيينه وإنجاز برامج بصدده، من مثل البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020/2027، والمخطط الوطني لمكافحة آثار الجفاف، وبرامج دعم الاستثمارات وجلبها، مع كل ما يتصل بذلك من تشبيك للتدابير العمومية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، وضمان التقائيتها بهدف إزالة كل العقبات والعراقيل التي تحد من تحسين مناخ المال والأعمال في بلادنا.
ورغم كل ما تم إنجازه من جهود جبارة مكنت بلادنا من انطلاقة جديدة قوية وموفقة وواعدة لقطار التنمية بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية، في سياق دولي مطبوع بالأزمات والتقلبات وبظروف كابحة للمشاريع ومعطلة لها، فإن اليقظة المغربية المعبر عنها في الخطب والتوجيهات الملكية تتقدم دوما برؤى استشرافية واستباقية لهذه المخاطر، بعد الرصد والتشخيص الدقيقين لأهم تأثيراتها السلبية، ومن ثمة وضع مخططات علاجها والتصدي لتداعياتها، وتحديد مداخل تأمين النموذج التنموي الوطني الجديد من الأضرار المتوقع حدوثها في مساراته المتشابكة والمترابطة الحلقات، في ظرفية إقليمية ودولية منذرة بكل المخاطر الممكنة.
وفي هذا السياق من رعاية مسارات النموذج التنموي المغربي، جاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الجديدة، ليؤكد على الانشغال الملكي البالغ بقضية تأمين المستقبل الواعد للطموح المغربي، الذي تحتضنه المشاريع التنموية الهيكلية، من مخاطر، قدم الخطاب الملكي نموذجين أساسين منها، يتمتعان بأولوية وراهنية واستعجالية:
ـ مخاطر ندرة المياه وشح الأمطار، في بلد فلاحي يشكل الماء فيه عصب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فرغم ما سبق لبلادنا أن اتخذته من إجراءات لتأمين هذه المادة الحيوية، ومن سياسات للحفاظ على الموارد المائية، فإن الطابع البنيوي للجفاف في منطقتنا المتوسطية خاصة، يستدعي تنويع التدخلات وابتكار مبادرات في مواجهة هذا المعطى المناخي المؤثر، الذي لا تنعكس آثاره السلبية على مياه الشرب فحسب، بل على مياه السقي لملايين الهكتارات والأراضي الزراعية المغربية التي صارت عماد الأمن الغذائي للبلاد ولكثير من الدول الإفريقية خاصة، التي تستفيد من الصادرات الفلاحية المغربية. وبالنسبة لهذا المعطى المتعلق بالمخاطر المحدقة بالموارد المائية الوطنية من إجهاد وندرة وإهدار، لم يكتف الخطاب الملكي بتشخيص الوضعية، وإنما وضع إطارا للحل المستديم يشمل مواصلة العمل بسياسة بناء السدود، ومحطات تحلية مياه البحر، ومد شبكات وقنوات الربط المائي، وتدوير المياه المستعملة، والحد من تبذير المياه أو الاستغلال العشوائي لها، عبر إصلاحات في مجال الري والسقي، والتي يتعين تنفيذها بعيدا عن أية مزايدات سياسوية أو استغلال من أجل إحداث توترات اجتماعية، كما نبه الخطاب الملكي إلى ذلك، مستحضرا مسؤولية الفاعلين السياسيين خاصة، معتبرا هذا الشأن مسؤولية وطنية مشتركة تهم كل القطاعات، بل كل أبناء الوطن، في إطار التفعيل الأمثل للمخطط الوطني الجديد للماء.
ـ المخاطر الثانية هي على الاستثمار المنتج للثروات والذي يراهن المغرب عليه بقوة للدخول إلى نادي الدول الاقتصادية المتقدمة وذات التنافسية العالية، والتي تملك مفاتيح النهضة بمواردها المالية المستثمرة وبمشاريعها الريادية والناجحة، وبجاذبيتها للاستثمارات المربحة. وهذه المخاطر التي يتعين تحييدها ونزع فتيلها، تتمثل أساسا في التراخي الذي نبه إليه الخطاب الملكي بشأن النهوض بالاستثمار وتحفيزه، رغم كل ما حظي به من دعم وإصلاحات هيكلية كبرى، وعلى رأس ما نبه إليه الخطاب الملكي في هذا الصدد أمران: الأمر الأول: العراقيل الإدارية على وجه الخصوص، التي لا تزال تحول دون تحقيق الاستثمار الوطني للإقلاع الحقيقي المنشود على جميع الأصعدة والمستويات. والأمر الثاني التعبئة المناسبة للموارد المالية التمويلية للمشاريع التي تحتاج إلى ترجمة التعاقدات بشأنها، سواء من قبل الحكومة أو القطاع البنكي أو الشركاء وسائر المتدخلين، بمن فيهم أبناء الجالية المغربية في الخارج، وقد حدد جلالته الالتزامات المالية لهذا التعاقد الاستثماري في 500 مليار درهم. ويتعين على الجميع حكومة وبرلمانا ومراكز جهوية للاستثمار وأبناكا ومقاولات تيسير هذه المهمة الوطنية التنموية الكبيرة والجليلة من أجل تحرير المبادرات والاستثمارات من عوائقها، والعمل كل حسب اختصاصه ومسؤولياته لتذليل الصعوبات والعقبات، ورفع التحديات التي يواجهها الاستثمار في بلادنا، بعد وضع قاطرته على سكته الصحيحة، ووضع البلاد في قائمة الدول الصاعدة في سلم الارتقاء.
إن تعبئة الموارد المائية والمالية للاستثمار في مستقبل البلاد وتأمين الحياة الكريمة فيها ينبغي أن يكون محفوفا بشدة الملاحظة والمراقبة للمخاطر وللطوارئ، وتَحَسُّب التقلبات سواء في مناخ الطبيعة أو مناخ الأعمال، ورسم استراتيجيات لتدبير هذه المخاطر واستباقها بالعلاجات والتدخلات المواكبة، ولا يتأتى ذلك من دون تعبئة جماعية للجهود والمبادرات والقطاعات والكفاءات في إطار مقاربة تكاملية وشمولية تقطع مع المقاربات القطاعية والتجزيئية لإشكالات التنمية والندرة والخصاص.