التضامن المغشوش
بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
كان بلاغ وزارة الشؤون الخارجية المغربية بشأن عودة أعمال القصف والحرب والعدوان في قطاع غزة الفلسطيني واضحا ودقيقا في توصيف ما يجري في غزة من تصعيد يستهدف تقويض فرص السلام الدائم والشامل والعادل، كما يستهدف تأجيل الحل السياسي القاضي بإقامة الدولة الفلسطينية وتمتيع الشعب الفلسطيني بحقوقه وحرياته وأرضه ومقدساته، وكان البلاغ منسجما أيضا مع الموقف المغربي الثابت من الجنوح إلى السلم ودعم حل الدولتين “دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل في أمن وأمان”، وهو الموقف المقرر في اتفاقيات السلام برعاية أممية وبإجماع عربي على مدخلاته وعملياته ومخرجاته. ولم يخرج بلاغ وزارة الخارجية عن تجديد التأكيد على مواقف المغرب “الثابتة والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني”، تاركا بذلك هوامش للتدخلات والوساطات لوقف الاستفزازات والمواجهات والغارات والعودة إلى التهدئة، وتفويت الفرص على المتاجرين بالقضية الفلسطينية ومحاولاتهم الزج بها في أجندات وتصفية حسابات إقليمية ودولية لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية ولا الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرين من الاحتلال ومن نخاسي القضية. وقد تبين بالفعل أن اختيار توقيت إشعال فتيل الحرب واستعمال الدم الفلسطيني وقودا لمعركة أخرى تقودها إيران في المنطقة العربية، في إطار صراعها على النفوذ وفي سياق بحثها عن أوراق ضغط في مفاوضاتها النووية مع الغرب. لذلك جاء بلاغ الخارجية المغربية مؤكدا على ثوابت الجنوح إلى التهدئة والسلام، والتذكير بالحل المستدام لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووضع حد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي صار، بحكم تطورات الأحداث ودخول فاعلين ولاعبين آخرين على خطه، سوقا لكل المزايدات والمساومات والابتزازات والمتاجرات.
مع كل هذا الوضوح والإدراك العميق لطبيعة اللعبة الانتهازية الرخيصة التي تمارسها أطراف إقليمية ودولية من أجل الزج بالشعب الفلسطيني مرة أخرى في أتون معارك لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية ولا بمطالب الشعب الفلسطيني، فإن أصواتا ناعقة ورخيصة دخلت بدورها على خط البلاغ المغربي، لتصفية حسابات مع الحكومة المغربية أو مع الدولة المغربية أو مع القضايا العادلة للمغرب، بمزايدتها على العواطف التضامنية التلقائية للشعب المغربي مع أشقائه الفلسطينيين في محنتهم، وبغمزها في بلاغ الخارجية المغربية بما يفيد وجود تواطؤ مع المحتل وعدم إدانة غاراته على غزة.
ليس مطلوبا من بلاغ الخارجية المغربية في سياق الدور الذي بات المغرب يلعبه كقطب للسلام ودعم الحوار والتفاوض والحلول الواقعية والدائمة والشاملة والجدية، حتى في ما يتصل بواجهة العدوان على قضيته الوطنية الأولى المتمثلة في وحدته الترابية وصحرائه المسترجعة، أن ينجر إلى دعم الحرب والعنف والتصعيد في قطاع غزة، علما أن الفصائل المتنازعة والمتقاتلة في هذه الأراضي الفلسطينية لم تتمكن من ضمان استقلال للقرار الفلسطيني في السلم والحرب، وباتت تنفذ على شعبها وعلى قضيتها المقدسة أجندات وإملاءات لدول وتيارات دموية لا يهمها إنشاء الدولة الفلسطينية ولا تحرير الأراضي المحتلة، مادامت تستفيد من وضع الاحتلال واللاحل، والتوتر الدائم الذي يدر عليها من المصالح الضيقة، ويستقطب الانتهازيين والنصابين وتجار الحروب إلى مشاريع التخريب والهدم المربحة على حساب الشعب الفلسطيني.
إن ركوب القضية الفلسطينية لتسوية ملفات أو تصفية حسابات خارج القضية، لا يقود إلا إلى مزيد من الخوض في الدماء الفلسطينية وإسقاط شهداء وخسارة مشروع تحريري وتحرري نبيل، واستدامة معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني من حملة الشعارات واللافتات الفارغة التي ليس تحتها عمل أو أمل، أكثر مما يعاني من حصار المحتل وغاراته.
إننا إذ ندين العدوان على الشعب الفلسطيني من كل هذه الأطراف والأطياف سواء المحتلة لأرضه أو المتاجرة بقضيته والمتباكية على معاناته وفي وسعها مساعدته، أو الحاملة لشعارات انتهازية وابتزازية لم تحقق يوما لهذا الشعب المظلوم إلا إطالة أزمته، فلأننا نحمل رسالة سلام ومشروع بناء حل يرفع الأضرار ويحفظ الكرامات والحقوق، ونضع أيدينا في أيدي جميع الدول المحبة للخير والعدل لمنع العدوان ووقف نزيف الأرواح وخراب الديار، وتحقيق التعايش والتساكن والتفاهم بين جميع الشعوب والأمم. ولا يمكننا أن نقبل بإملاءات من مشبوهين أو مغرر بهم، يتخذون القضية الفلسطينية قميص عثمان في ابتزاز العواطف والمشاعر العربية والإسلامية والإنسانية، والمزايدة على مؤسساتنا ومقدساتنا وقضايانا الأخرى العادلة والشرعية التي لا تقل عند الشعب المغربي أهمية وأولوية عن القضية الفلسطينية، كما لا يمكننا الاصطفاف مع المشاريع التخريبية والإرهابية الهدامة التي لا يهمها الشعب الفلسطيني في شيء، اللهم إلا ما كان من التترس به والاختفاء وراء قضيته، كما لا نقبل، في إطار اختياراتنا الديمقراطية والسلمية والتعايشية، وفي حدود استقلال قرارنا السيادي الوطني، وإدراكنا لمصالحنا، ووعينا بالمؤامرات والدسائس التي تحاك للقضية الفلسطينية كما لقضية وحدتنا الترابية، أن تعطينا هذه الجهة أو تلك دروسا في القومية والوطنية، أو تملي علينا كيف نتكلم في القضية الفلسطينية، وكيف نعبر عن مشاعرنا تجاه أشقائنا، أو كيف نكتب بلاغات للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكيف تكون عليه لهجة هذه البلاغات ولغتها وخطابها واختيار ألفاظها…
أما الذين يدْعون إلى تصعيد اللهجة ولغة الحرب والقتل والدماء من أي جهة داخلية كانوا، وكذا الذين يفاخرون برفع الشعارات الحماسية المزيفة ويجاهرون بالخطابات المتشنجة المغشوشة، ويزايدون بها على الآخرين، فما عليهم إلا أن يكونوا صادقين في دعواهم ودعوتهم، ولو لساعة من الزمن، فيتفضلوا إلى ساحة الوغى أو ساحة السياسة ليقدموا ولو مبادرة وحيدة تفك الحصار عن الشعب الفلسطيني وتنتصف له من احتلال طال أمده، وترفع عنه المظالم والمآسي التي امتدت على طول الشعارات الرخيصة من النهر إلى البحر.