قضايا وآراء

دروس المنتخب النسوي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

أسدل الستار في نهاية الأسبوع الفارط، على فعاليات الدورة الرابعة عشرة لكأس أمم إفريقيا في كرة القدم النسوية، المنظمة ببلادنا، بتتويج منتخب سيدات جنوب إفريقيا، بعد ست محاولات أوصلته إلى نهائيات الدورات السابقة. وحظي المنتخب النسوي المغربي بالمرتبة الثانية بعد وصوله كأول فريق عربي وشمال إفريقي للسيدات إلى الدور النهائي، متغلبا على منتخبات إفريقية عريقة وقوية.
ورغم أن لبؤات الأطلس لم يوفقن في الفوز بالكأس الإفريقية، ولم تحالفهن التجربة القصيرة ولا الحظ العاثر في انتزاع اللقب الإفريقي، إلا أنهن أحدثن رجة في الأوساط الاجتماعية المغربية التي تابعت ولأول مرة وبشغف واهتمام كبيرين فريقها النسوي، الذي لم يكن يُسمع به من قبل ولا بأسماء لاعباته، وصار اليوم على طرف كل لسان، كما صارت أسماء اللاعبات أشهر من نار على علم، وصرن نجمات في السماء المغربية طيلة فعاليات هذه التظاهرة الرياضية الكبرى، التي تابعها الملايين من المغاربة ومن سائر بلاد المعمور، وتجاوز الحضور الجماهيري المغربي في الملاعب المحتضنة لبعض المباريات الخمسين ألف متفرج، في أجواء رياضية رائعة وقياسية وغير مسبوقة بالنسبة لكرة القدم النسوية الإفريقية والعربية.
لا يعدو أمر هذه التظاهرة الرياضية أن يكون كغيره ومثيله من التظاهرات القارية والدولية، التي يرصدها المهتمون بالشأن الرياضي، وتتابعها الجماهير بشغف كبير، ويعلق عليها المعلقون، ويحللها التقنيون وأهل الاختصاص، إلا أنها بالنسبة للسياق العربي والإسلامي والمغربي تشكل منعطفا تاريخيا لا يرتبط فحسب بتقدم الرياضة والكرة النسائية في هذا الإطار، وإنما بخطوة كبيرة وبتحول نوعي في العقليات والذهنيات، خصوصا ما تعلق منها بالنظرة المحافظة والتقليدية إلى المرأة، وما كرسته من توزيع تمييزي في الأدوار بينها وبين الرجل، فقد نجحت هذه التظاهرة النسائية الإفريقية في انتزاع الاعتراف المجتمعي بأهمية التمكين للمرأة في مختلف ميادين الحياة، وفي لفت الأنظار إلى استكمال حلقات أحد أهم أوراش المشروع المجتمعي الحداثي والتنموي المغربي الذي تتكافأ فيه الفرص بين جميع أبنائه وفئاته وهيئاته وجهاته، من غير تمييز ولا إقصاء ولا استثناء.
لقد شعر المغاربة لأول مرة باعتزاز وفخر بالقيادة النسائية البارعة لوقائع مباريات رياضية كانت حكرا على الذكور وعلى اهتمام الرجال، حيث حظيت كل اللاعبات في المنتخب النسوي المغربي بالاحترام والتشجيع والتقدير لموهبتهن وخبرتهن وروحهن القتالية العالية، وبما أمطرن به شباك المنتخبات المنافسة من كرات وأهداف، وكشفن في حالات معزولة يجري في الفضاء الأسري والعمومي نقاشها، وهي بقايا مواقف إقصائية وتمييزية عبرت عن صدمتها من براعة المرأة المغربية خارج دائرة الطبخ وجدران المطبخ، وهي المواقف التي ستتبدد تلقائيا وواقعيا بالرجة التي أحدثها المنتخب النسوي المغربي في الذهنيات والعقليات الجامدة، وبالرجات القادمة والهادئة المنتظر حدوثها في بنيات اقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية تتردد في اللحاق بركب المساواة في الحقوق والواجبات والتوافق مع توجهات دستور البلاد، وجوهر دين الأمة، وهويتها الحضارية الإنسانية التي أنجبت مثل هذه اللاعبات الرياضيات الرائدات والمشرفات لبلادهن، كما أنجبت قبلا نساء وسيدات عظيمات خلدن في صحائف التاريخ مجد الوطن، من أمثال كنزة الأَوْرَبية، وفاطمة الفهرية، وزينب النفزاوية، والسيدة الحرة، والزهراء الوطاسية، وخناتة بنت بكار، ومسعودة الوزكيتية… وغيرهن كثير من نساء العلم والآداب والاقتصاد والتكنولوجيا والرياضة المغربيات المنتشرات في كل المحافل والمختبرات والميادين الإنتاجية الحيوية في ربوع البلاد وربوع المعمور.
لا ينبغي الاستهانة بهذه اللحظة التاريخية المفصلية في مساراتنا التقدمية، ولا الاكتفاء بوجهها الرياضي المحصور والمحدود، بل ينبغي النظر إلى ما كرسته من وعي جمعي متقدم، ومن تغيير إيجابي في العقليات والذهنيات والأفكار، عكسته بشكل إيجابي النقاشات العمومية والمجتمعية التي عبرت عن اعتزاز وفخر بنساء المغرب وبالطاقة الإيجابية التي خلفتها مشاركاتهن لزملائهن الرجال في مختلف التظاهرات والفعاليات المشرفة لبلادهن، تلك الطاقة التي ستدفع لا محالة بالأسر والمجتمع إلى تشجيع الفتيات على ولوج ميادين التنافس والعطاء والإنتاج لصالح مستقبل آخر واعد وزاهر لنسيجنا المجتمعي الوطني، الذي لن يعود فيه مكان للإقصاء والتهميش والنظرات الدونية والتمييزية والتفضيلية، وحيث سيرغم الواقع التاريخي والحضاري دعاة الجمود والتزمت إلى الاعتراف بالحق في الحياة والحرية والعيش الكريم والفرص المتكافئة لجميع أبناء وبنات الشعب المغربي.
فهنيئا لمنتخبنا النسائي هذا التذكير برأسمال بشري مغربي ثمين يجب أن يحظى بما يليق به من رعاية وتطوير وترصيد لمكتسباته، ودفع بها في اتجاه التمكين لمشروعنا المجتمعي الحداثي، ولنموذجنا التنموي الجديد الذي تحتل فيه قضايا الشباب والنساء والطاقات الجديدة والموارد البشرية المدربة والخبيرة مكان الرافعة القوية لنهضتنا الحضارية، والتي لا تحتاج منا إلا تقديم نماذج عملية وواقعية ناجحة عنها، مثل النموذج الذي قدمت عنه فتيات المغرب ونساؤه في كأس إفريقيا لسيدات كرة القدم، مثالا وقدوة من العيار الكبير والثقيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق