المن والأذى
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
من المعلوم لدى عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن العشر الأوائل من ذي الحجة، من أيام الله المعظمة التي لا تماثلهن أيام في الفضل واجتماع أمهات العبادات من زيادة الذكر والصلاة والصيام والصدقة والحج، والإكثار من العمل الصالح والتوبة النصوح إلى الله، والإكثار من الاستغفار، والبعد عن الظلم والمعاصي، والكف عن إذاية الناس، وزيادة الاهتمام بتحسين الأخلاق والسلوك والإحسان إلى الجيران وإكرام الضيوف، غير أن لجيران السوء من أزلام العصابة الحاكمة في الجزائر رأيا آخر في هذه الأيام المباركة، إذ كلما حلت بالأمة الإسلامية، وهل هلالها سارعوا إليها بكل أنواع العربدة والتطاول في الساحة الإسلامية، ونشروا فيها من كل أشكال الكراهية وفنون الفتن، وارتكبوا فيها من السلوك المنكر ضد المغرب ما يندى له جبين الإنسانية، فضلا عن جبين المسلمين الذين يَحسبون هذه العصابة على ملتهم ودينهم.
هناك تاريخ حافل من استغلال واغتنام أزلام العصابة هذه العشر الأوائل من ذي الحجة التي هي أعظم الأيام عند الله، في تنفيذ جرائم ضد المغاربة، كان على رأسها اختيار هذه الأيام الربانية الجليلة للتهجير الجماعي لآلاف الأسر المغربية المقيمة في الجزائر، وذلك عام 1975 وفي يوم عيد أضحى مبارك، حيث وجد آلاف المغاربة أنفسهم مطرودين إلى الحدود المغربية ممزقي الأوصال ومقطوعي الأرحام ومنزوعي الممتلكات، في مسيرة سمتها العصابة بالمسيرة السوداء، ردا على المسيرة الخضراء المغربية. وبعيدا عن أن ننكأ جرحا لم يندمل بعد في ذاكرة آلاف ضحايا الحقد الأعمى للعصابة، من المغاربة الأبرياء الذين عاشوا في الجزائر وكونوا أُسَرا هناك، وبنوا دورا ومساكن، واستثمروا في متاجر ومعامل ومقاولات، بل وكان منهم من حمل صفة المجاهد لاستبساله في الكفاح إلى جانب أشقائه الجزائريين في حركة تحرير الجزائر والثورة ضد المستعمر، فلم يشفع لهم جوار ولا أخوة في الإسلام ولا العروبة ولا الأمازيغية، ولا الدماء المشتركة والمختلطة في ساحة معركة التحرير، ولا المصاهرات والقرابات التي تجمع عائلات جزائرية ومغربية، كما لم يشفع لهم أنهم في أيام هي عند المسلمين من مواسم القربات والطاعات والصلاح، وفي عيد للتضحية والوفاء والبرور والفداء والكرم والإخاء. فكان ما كان من مأساة كبرى لهذه الآلاف من العائلات والأسر المغربية، ذنبها أنها مغربية تعيش وتقيم في الجزائر. ومهما حاولنا نسيان قضية هذه الأسر والعائلات المغربية، بل الجزائرية المختلطة، وتجاهل مظلمتها، فإن واقعها لا زال شاهدا حيا على جريمة نكراء، كما أن التاريخ قد دون شهادات ووقائع عن الذاكرة المؤلمة لهذه المسيرة السوداء، وأن العدالة الإلهية قد أخذت وستأخذ مجراها في هذا الانتهاك السافر لحرمات العاشر من ذي الحجة، وتسليط الظلم والأذى والعذاب على آلاف من المسلمين هم أشقاء وجيران وضيوف، كانوا سندا للجزائر في عز أزماتها وخصاصها، وكان جزاؤهم إلقاؤهم من شاهق ما بنوه لها من بيت وبُروج.
تصر العصابة على تكرار مثل هذا الإثم العظيم والقبيح، في كل عشرية أُولى من ذي الحجة، حتى صار الارتباط قائما في أذهان المغاربة بين طلوع هلال هذا الشهر المبارك وطلوع قِرن شيطان العصابة، مثلما اقترن في أذهانهم أيضا حدث المسيرة السوداء في عشرية الأضحى والفداء، بأحداث العشرية السوداء التي لطخت وجه الجزائر بالدماء الحمراء وهزت كيان العائلات والمجتمع الجزائريين.
ومن إصرار العصابة الحاكمة في الجزائر على المروق والعقوق في هذه الأيام المباركة، ما أقدمت عليه من سلوك غير أخلاقي في حق بقية من المهاجرين المغاربة بالجزائر، الذين تستهدفهم العصابة وأزلامها يوميا بكل أنواع المضايقات والإهانات والتنكيل، لا لشيء إلا لأنهم يحملون الجنسية المغربية، ضاربين بعرض الحائط كل القيم الدينية والإنسانية في رعاية حسن الجوار واحترام الضيوف، ومنتهكين لكل الأوفاق الدولية ذات الصلة بحقوق المهاجرين. فقد أنجزت قناة الجزائر الدولية المملوكة للعصابة، تحقيقا عن المهاجرين المغاربة في الجزائر، عنونته بـ “هروب نحو الحياة”، استغلت فيه، لأغراضها الدعائية العدوانية الدنيئة، مجموعة من العمال والحرفيين المغاربة البسطاء المتواجدين فوق التراب الجزائري، والذين يَسُدُّون خصاصا مهولا في الصناعات التقليدية والحرف المرتبطة بالبناء والعمران كالنقش على الجبص والخشب والزليج بهذا البلد الجار، والذين دفعهم الطلب الجزائري المتزايد على الخبرة المغربية في الصناعة والحرف التقليدية، إلى التطلع لتحسين ظروف عيشهم وزيادة مداخيلهم. ولأن هؤلاء الضيوف عبروا عن ارتياحهم لمستوى حياتهم ومعيشتهم بالبلد المضيف، وذكروه بخير كما ذكروا أهله كذلك، فإن المعلق في هذا التحقيق أو التلفيق لم يكُفّ عن المن على هؤلاء المهاجرين المغاربة بكون الجزائر أنقذت حياتهم، وتفضلت عليهم بالرزق والمأوى وكأنهم لا يقدمون أية خدمة، أو كأنهم عالة على الجزائر، مثلما هو وضْعُ المحتجزين في تيندوف، والحال أن هؤلاء لم يهربوا من جحيم المغرب إلى جنة الجزائر، ولا من ظلمات بلدهم إلى أنوار البلد الجار، بل هم كسائر المهاجرين في بقاع المعمور من النخب المدربة والخبرات المطلوبة والعمال المهرة والخبرات المطلوبة الذين تقدم لهم إغراءات خارج بلدانهم وتستقطبهم الدول إليها للنهوض بأعمال لا تتوفر لها الخبرات الوطنية اللازمة للقيام بها، أو أنها لا تتقنها ولا تحسنها. هكذا حال مهندسين وتقنيين وأطباء وفلاحين وصناع ومدرسين يهاجرون من أوطانهم، لا لأنها جحيم لا يطاق، بل لأن الطلب عليهم في بلد آخر شديد والأجور مغرية، إلا في الجزائر فإن الهجرة إليها في عرف أغبياء العصابة هي استنجاد بهم من ظلم الأوطان، والأجور المدفوعة عن خدمات المهاجرين هي صدقات تَمُن بها العصابة عليهم، وما جمعه المهاجر من ثروة عرق جبينه وشقائه هو مال متحصل من التسول، قد لا يسمح له أن يخرجه من البلد، وقد يصادَر ويحجز، لأن العصابة هكذا تتخيل المهاجر إلى بلدها، متسول هارب من الجحيم، طالب لمجرد البقاء على الحياة في جزائر الخيرات والأنوار، التي يُعد أبناؤها من أكثرية الهاربين المتوسطيين في قوارب الموت إلى الجنة والأنوار الأوروبية.
ولما كانت العصابة لا تعترف للمهاجر إلى بلدها بأية كرامة، ولا بأية حقوق، مقابل مَنِّها عليه باستضافته وإطعامه وإيوائه، فإنها على استعداد، عند أي انفعال أو أزمة مع بلد المهاجر، لتعيده إلى حيث أتى، بلا شفقة ولا رحمة، ولا رعاية لأي ميثاق أو اتفاق دولي بشأن حقوق الإنسان والهجرة…
إن التحقيق الذي أنجزته القناة التلفزيونية الدولية للعصابة الحاكمة في الجزائر عن بحبوحة عيش المهاجرين المغاربة في الجزائر بالمقارنة مع جحيم بلدهم وظلام بلدهم، وما رافقه من إذاية وإهانة لكرامة هؤلاء المهاجرين من الحرفيين والصناع المغاربة المهرة المطلوبين عالميا، والذين تم توريط واستغفال عدد منهم للإدلاء بتصريحات شخصية سلبية عن بلدهم، ومتملقة للبلد المضيف أو مجاملة لتوجيهات صاحب التحقيق، هذا التحقيق يعبر عن انحطاط ما بعده انحطاط، ولا يمكن لتلفزيون أو إعلام بلد آخر في المعمور مهما كانت عداوته لجيرانه، أن ينجز مثله في الحقارة والنذالة والهبوط الأخلاقي. فقد شهد المغاربة أنه في عز الأزمات مع الجارة الإسبانية لم ينزلق إعلامها ولا دولتها ولا شعبها إلى إهانة آلاف المغاربة المهاجرين إلى إسبانيا، وظلت العلاقة بين الإسبان ومهاجرينا محكومة بالقوانين والأوفاق الدولية والاتفاقيات الثنائية والحقوقية التي لم تفسدها التوترات السياسية والديبلوماسية بين البلدين، لم نر قناة إسبانية مسيحية تتحين فرص الأعياد والأفراح والمناسبات الدينية لانتهاك حرمات المغاربة، أو الإساءة إلى بلدهم، كما رأيناه في قناة الجزائر المسلمة ضد جارها المسلم وجيرانها وضيوفها وأشقائها المغاربة، وفي أيام روحية أُمر المسلمون بتعظيم حرماتها وكف الأذى فيها، لكن العصابة أمرت أزلامها بالفسوق والفجور فيها نكاية في الدين والدنيا.