الـدعــامــات الأمنــية والعسكـرية
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
يواصل المغرب استكمال آخر حلقات تأمين موقعه الاستراتيجي القاري والدولي، وتكريس محورية فضائه الجيوستراتيجي في تعزيز السلم والاستقرار والأمن القاري والدولي، واستثمار تراكماته الديبلوماسية الناجحة وعلاقاته الدولية المحترمة وقوته الاقتراحية والحوارية المبادرة والبناءة، لتعزيز فرص الإقلاع بالتعاون الدولي في مواجهة تحديات ما بعد الفترة الوبائية وما بعد الحرب الأوكرانية.
ولأن التجربة المغربية في تحويل التحديات والأزمات والعقبات والعراقيل إلى فرص ثمينة لإحداث التغيير الإيجابي والشامل في الأداء السياسي والاقتصادي والثقافي، أثبتت نجاعتها وكفاءتها ومصداقيتها في عز الأزمات، فإنها صارت مرجعية ملهمة للدول التي تتطلع إلى الاندماج في مسارات التحول الجارية على قدم وساق في ربوع المعمور وخاصة في القارة الإفريقية، التي تعيش منعطفا حاسما في تاريخها لضمان أمنها الغذائي والصحي والطاقي، وتدبير ثرواتها ومواردها المادية والطبيعية والبشرية، والتصدي لنزعات الهيمنة والإرهاب والانفصال التي تهدد سيادات الدول ووحدتها الترابية واستقرارها الاجتماعي ونموها الاقتصادي.
وفي هذا السياق القاري والدولي الذي يُعتبر فيه الاستقرار والأمن ركيزة أساسية لنجاح المبادلات والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية ومشاريع الربط الكبرى، ينجح المغرب مرة أخرى في ربط استقطابه للمشاريع الاستثمارية الإفريقية والدولية باستقطاب قوي للشراكات الأمنية والتحالفات العسكرية القوية الداعمة للاستقرار والسلام في هذه المنطقة الاستراتيجية المتوسطية التي تشكل جسرا للعبور بين القارة الأوروبية والقارة الإفريقية، وواجهة أطلسية مطلة على القارة الأمريكية، إيمانا منه أنه بدون ضمان استقرار وأمن مستديمين وممتدين إلى ربوع القارة الإفريقية، تكون جميع دولها وشركاؤها الدوليون متمتعين بهما، يستحيل استقطاب الاستثمارات البينية، ولا جذب المشاريع الواعدة، ولا توسيع الشراكات الاقتصادية وإنجاحها، وتقاسم منافعها. ولهذا فإن اختتام المنتديات الاقتصادية والاتفاقات والشراكات والمشاريع الاستثمارية الضخمة التي تم إرساؤها بين المغرب وشركائه القاريين والدوليين خلال السنة الجارية، بتحرك دينامي مغربي باهر على الصعيدين الأمني والعسكري لتأمين فضائه الإفريقي والمتوسطي والأطلسي سيشكل أكبر حدث وعلامة فارقة في هذا المنعطف الجديد الذي تدخله السياسة الإفريقية للمغرب.
والحدث بالفعل هو من شقين شق أمني تمثل في التطورات المتسارعة والمتصاعدة للتنسيق الأمني والاستخباراتي المغربي مع شركائه من الضفتين المتوسطية والأطلسية، والتي اختتمت بزيارات العمل التي قام بها المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني المغربي، لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا، حيث أجرى مباحثات مكثفة مع نظرائه في الأجهزة الأمنية والاستعلاماتية من البلدين، لتنسيق الجهود في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة والقضايا ذات الاهتمام المتبادل، وحيث يعترف للمغرب بدوره الريادي والمحوري والثابت في صدارة المواجهة والتنسيق والتعاون في محاربة الإرهاب والتوفر على منظومة أمنية قوية وقاعدة معطيات ومعلومات ثمينة لتطويق المخططات الإرهابية واستباق مخاطرها وتهديداتها وتتبع امتداداتها في المنطقة المتوسطية ومنطقة دول الساحل والصحراء.
والشق الثاني في هذا الحدث هو عسكري، يتمثل في احتضان المغرب أكبر وأضخم مناورة عسكرية متعددة الجنسيات والدول المشاركة ميدانيا أو رقابيا، حيث استقطبت مناطق وجهات ترابية مغربية آلاف الجنود الأفارقة والأمريكيين والأوروبيين، ومئات القطع العسكرية من طائرات ودبابات ومدرعات وسفن حربية وعتاد عسكري، لإجراء تداريب وتمارين هي الأولى من نوعها من حيث الخبرات الجديدة المتبادلة، ومن حيث طبيعة الأهداف والتحالفات لمواجهة مشتركة ومنظمة ومنسقة للتهديدات الإرهابية وللجرائم العابرة للحدود، والتدخل في حالات اندلاع هجمات كيميائية أو بيولوجية أو إشعاعية أو نووية، وكذا التدريب على مهام إنسانية وطبية في الإنقاذ والإسعاف والحماية.
الجديد المتكرر للمرة الثانية في هذه النسخة من المناورات العسكرية هو تكريس منطقة المحبس في الصحراء المغربية كساحة للعمليات العسكرية الميدانية، في إشارة سياسية من الدولتين المنظمتين: الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، إلى الإنهاء الفعلي للجدل حول الوحدة الترابية للمغرب من طنجة إلى الكويرة، وتأكيد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
ما كان المغرب أن يستقطب إليه هذه المبادرات والتحالفات الأمنية والعسكرية لولا ما يحظى به من ثقة المجتمع الدولي ومن ثقة شركائه في مصداقيته ومحورية دوره القاري والجهوي في مد الجسور وتحويل أرضه إلى ملتقى للحوار والتبادل والتقاسم والتعاون والتفاهم، ولذلك تحرص دول العالم المحبة للسلام والعدل على دعم الجهود السلمية للمغرب، والتمكين له في كل مبادراته لتقوية موقعه ومكانته في المجتمع الدولي كقطب إفريقي متوسطي عربي وإسلامي موثوق وذي مصداقية.
إن جعل المغرب قطبا للاستثمار في المنطقة، وجسرا للتبادل والتعاون والعبور بين ضفتي المتوسط، وبلد استقرار وأمن، لا تمليه فحسب تطلعات المغرب ورغبته وأمانيه ومكتسباته التشريعية والحقوقية والتنموية والأمنية، بل يفرضه الدور المحوري للمغرب في كل عمليات السلام والتعاون والحوار في المنطقة، وتفرضه الرؤية الاستباقية والمستقبلية للدول الوازنة والقوية التي ترى مصالحها في الانخراط في المقاربة المغربية القائمة على منطق الربح المشترك بين الشركاء، والتقدير المتبادل للمخاطر والأضرار بينهم، والإسهام في تذليل الصعوبات وحل المشاكل، واستفادة الجميع من الفرص الربحية التي تتيحها الشراكات المتوازنة، وهي المقاربة التي يمتلك المغرب مفاتيحها وقوتها الإقناعية التي يدفع محيطه الإفريقي للانخراط فيها والاندماج الفعلي في مسلسلها الرابح، كما يدفع شركاءه الدوليين إلى تغيير نظرتهم عن هذه القارة الصاعدة القادرة على التأثير في مسارات النظام العالمي الجديد لما بعد الوباء والحرب، والتصدي لقوى الهيمنة والإرهاب والكراهية، وتحسين أدائها الاقتصادي باستثمار أمثل لمواردها الهائلة وتحقيق أفضل لتكاملها التجاري والفلاحي والصناعي.