قضايا وآراء

الوساطة واللاءات الثلاث

بقلم: الاستاذ عبد الله الفردوس

عاد موضوع الوساطة العربية في الأزمة الجزائرية مع المغرب، ليطرح أكثر من علامة استفهام حول توظيف العصابة الجزائرية للمفهوم الديبلوماسي النبيل للوساطة في أغراض خسيسة، فهي من أوائل المسارعين لطلب وسيط موثوق في الأزمة التي افتعلتها مع المغرب، لإنجاح عقد مؤتمر القمة العربية في الجزائر، وهي في الآن نفسه أكثر الجهات التي تحدثت عن هذه الوساطة بالتكذيب والتعنت والرفض لأي وساطة، وإظهار بطولات أمام الشعب الجزائري تتلون بحسب الفترات وبحسب المخاطبين، فتارة تزعم أنه لا مشكل لديها مع المغرب، ومن ثمة فلا داعي للأشقاء العرب للمبادرة بالتوسط، وتارة تؤكد أن ثمة فعلا متدخلين من قادة الدول العربية لتخفيف حدة التصعيد في المنطقة المغاربية، لكن الجزائر تردها بأدب، ولا ترغب فيها أمام ما أسمته بالاعتداءات المغربية المتكررة، وتارة أخرى تتحدث عن لزوم الاعتذار المغربي والكف عن اعتداءات وإساءات، لا توجد إلا في مخططات ومؤامرات العصابة، وتارة أخرى تبسط عبر حديث الوساطة ما تزعمه من أسباب قطع العلاقة بسرد الاتهامات دفعة واحدة أو بانتقاء سبب واحد يتحول ويتغير من موقف إلى آخر، ومن مخاطب إلى آخر (حرق الغابات الجزائرية، حرب 62، قصف شاحنات على الحدود، إيواء ودعم انفصاليين جزائريين، استئناف العلاقات مع إسرائيل، توقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية مع إسرائيل…) وتارة أخرى تخرج بتصريحات موتورة وغاضبة تنفي قيام أي وساطة أو التطرق لموضوعها في اللقاءات والزيارات التي قام بها رئيس ديبلوماسية العصابة إلى دول الخليج العربي، وأثار بدلا منها موضوعات تتعلق بالتعاون الجزائري الخليجي، و”تطابق” وجهات النظر؟؟ ولم الشمل العربي في أفق عقد مؤتمر القمة، وتارة أخرى بعد نسيان موضوع الوساطة توحي لوسائل إعلامها وأذرعها الصحفية بطرح سؤال الوساطة على قيادات العصابة من رئيسها إلى أصغر ديبلوماسييها، حتى تتمكن من تجديد انفعالاتها البطولية، واستعراض عضلاتها على الشعب الجزائري، وزيادة جرعات الرفض والتصلب والتعبير عن مواقف “مبدئية” و”نهائية” و”واضحة” لا تقبل النقاش ولا التردد ولا المراجعة ولا التنازل عن الحقوق والكرامة و..و..و، من مثل ما صنع وزير خارجية العصابة في الأسبوع الفارط، بعد الزيارات التي قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله آل سعود للجزائر، وما أثير حول الزيارة من اندراجها في إطار مساعي المملكة العربية السعودية إلى تلطيف الأجواء بين البلدين المغاربيين الجارين، قبيل عقد القمة العربية المؤجلة.

وإذا كانت تقارير عربية ودولية، وتحليلات سياسية تؤكد أن الوساطة هي محور هذه الزيارة، وكانت الجهات الرسمية السعودية والمغربية قد لزمت الصمت أو التكتم حول الموضوع، فإن العصابة الجزائرية استغلت الفرصة مرة أخرى، ووحدها دون سواها من المعنيين بأمر وساطة مزعومة أو مطروحة، للخروج بتصريحات استفزازية ومتشنجة تلخصها العبارة الغامضة والعدوانية وغير الأخلاقية وغير الديبلوماسية التي أجاب بها وزير خارجية العصابة المدعو رمطان لعمامرة، عن السؤال الموحى به حول وجود مبادرة وساطة، بقوله : “لا وساطة لا بالأمس ولا اليوم ولا غدا إن شاء الله”، ثم حمَّل المغرب مسؤولية إيصال العلاقات مع الجزائر إلى وضع سيئ ومزر.

الجواب في حد ذاته يكشف عن أن قائله لا يملك ذرة من الأخلاق الديبلوماسية المتعارف عليها دوليا في تدبير الأزمات مع الدول، ولا يتمتع بأي مصداقية سياسية لأنه يعتبر مفهوم الوساطة وما يستتبعه من تفاهم وتفاوض وحوار، أمرا مرذولا وخارج العمل الديبلوماسي، ولا يليق بالديبلوماسي الجزائري إلا رفضه وإدانته، وليس الأمر كذلك فحسب، بل اعتبار الوساطة سواء في الأمس أو في الحاضر أو حتى في المستقبل غير مقبولة وغير مرحب بها في العمل الديبلوماسي، مما يعني أن العمل الديبلوماسي الجزائري في الأمس وفي اليوم وفي الغد يضع نفسه في خدمة الحرب والقطيعة والجمود الدائم على الأزمة، وأضاف لعمامرة إلى كل هذه التوابل الديبلوماسية الحارة والحارقة، تابلا آخر لم يُسمع به من قبل في مثل هذا السياق، وهو الدعاء بالبقاء في خندق الصمود على هذا المبدأ العسكري والحربي “الديبلوماسي” القاطع للعلائق، في قوله: “إن شاء الله”، فمشيئة الله عنده أن يظل هذا الموقف المبدئي القاطع لما أمر الله به أن يوصل، والرافض للحوار وللجنوح للسلم ولأي وساطة هو مراد الله وقدره للجزائر، وكأن في هذا الموقف بطولة ما وعقيدة خالصة وثابتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن شاء الله التي نطق بها لعمامرة في دعواه الصمود على اللاءات الثلاث: “لا وساطة أمس ولا وساطة اليوم ولا وساطة غدا إن شاء الله”، تكشف عن منتهى الغباء الديبلوماسي الذي لم يكتف بشتم الوساطة الديبلوماسية التي هي في صلب اختصاصاته، حتى زاد عليها الرجم بالغيب وشتم المستقبل المفتوح والواعد الذي ينتظر المنطقة، شاء لعمامرة أو أبى.

 ممارسة الوصاية حتى على المستقبل اختصاص حصري للعصابة الحاكمة في الجزائر، تعبر عنها بهذا التطاول والتشنج المبالغ فيه بصدد أمر عاد وطبيعي ومحمود بين الدول، وهو مساعي التخفيف من التصعيد والتوترات، والتوسط لإيجاد أرضيات للتفاهم والتحاور. فشتان بين ما تفهمه المملكة العربية السعودية وكل الأشقاء والأصدقاء وشركاء السلام في العالم من معان أصيلة ونبيلة للوساطة والمساعي الحميدة لسفراء السلام، وبين ما تفهمه العصابة الحاكمة في الجزائر وأزلامها الذين لا يفقهون حديثا ولا إشارة إيجابية، في موضوع هذه المساعي الوسائطية.

ولعلم أزلام العصابة المسيئة للتاريخ والجغرافيا والمستقبل، فإن المغرب لم يطلب وساطة ولا صرح بها ولا أمر بها، ولا فرح لها ولا حزن، لأنه أصلا لم يقطع علاقة ولا سد أنبوبا، ولا أغلق أجواء، ولا اعتدى على جيران، ولا يملك متهموه من العصابة الحاكمة في الجزائر ربع دليل على ما اختلقوه من تهم ومزاعم ضد المغرب، يشيب لها الولدان، ولو ملكوا ذلك لما وسعهم محفل دولي ليدلوا به على رؤوس الأشهاد، أما والأمر فيه تآمر على الشعب الجزائري قبل غيره، لتحريف مطالبه ونضالاته وحراكه عن هدفه الأساس الذي هو إسقاط حكم العصابة، وبناء دولة بمواصفات الدولة المدنية الحديثة التي تقطع مع ريع الذاكرة وخطاب البطولات العسكرية والحربية ضد العالم، فإن خير رد على العصابة التافهة والسفيهة هو مواصلة جهود البناء وتكريس ديبلوماسية إيجابية وبناءة وقادرة على تنزيل مشروع حقيقي للسلام والتعاون والتفاهم والحوار المنتظم والشامل والدائم والمستدام، كما كان عليه أمر هذه الديبلوماسية المغربية في الأمس، وكما تعمل عليه اليوم، وكما تستشرفه وتتطلع إليه في الغد أو المستقبل بمشيئة الله وإذنه، لا بمشيئة أزلام العصابة الذين لا يحسنون الصمت في موضعه ولا النطق في موضعه بما يليق وبما ينفع الناس.

 فلا داعي للعصابة الجزائرية التافهة أن تكرر على مسامع العالم كل يوم وكل شهر وكل سنة وحتى إلى الأبد، أنها ترفض الوساطة وأنه لا وساطة أمس واليوم وغدا “إن شاء الله” كما اختصر ذلك وزير خارجيتها بكل الغموض والوضوح اللازمين، “فإذا ظهر المعنى فلا فائدة في التكرار”، وإذا كان لا وساطة بكل اللاءات الثلاث في الماضي والحاضر والمستقبل، أي في الأمد والأبد، فإن الكلام فيها انتهى وحسم، ولا حاجة للخروج كل مرة لتذكير العالم به، وليكتف لعمامرة بإخبار وزراء خارجية الدول عبر إرسالية أو من خلال لافتة معلقة بسفارات بلده وفي الصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني لوزارته، بمنع التطرق في الأحاديث الثنائية لأي وساطة، لأن الجزائر تحرمها وتجرمها إلى أبد الآبدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق