قضايا وآراء

ماذا بعد الاتفاق الاجتماعي؟

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

بمناسبة اليوم العالمي للشغل، وقعت أطراف الحوار الاجتماعي الثلاث: الحكومة والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، وأرباب العمل المنضوون تحت لواء الاتحاد العام لمقاولات المغرب، محضر الاتفاق الاجتماعي الذي أسفرت عنه مفاوضات عسيرة بين هذه الأطراف، أخذت بعين الاعتبار عددا من مطالب الشغيلة في تحسين وضعيتها، وكذا إكراهات الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تمر منها البلاد، والحفاظ على مناصب الشغل القائمة واستحداث الممكن منها، والحفاظ في الآن نفسه على التوازن بين تكاليف الإنتاج والأرباح والمردودية التي تسهم في نمو الإنتاج وزيادته واستدامته.

وإذا كانت جميع أطراف هذا التفاوض الجماعي أو الاتفاق الاجتماعي، قد عبرت عن ارتياحها لنتائجه وتثمينها لنهج الحوار والتفهم والشراكة الذي جرى وفقه، فإنه لا يسعنا إلا أن نثمن بدورنا مدخلاته ومخرجاته التي نجحت في تطويق جزء من الأزمة الاجتماعية، ومواصلة التضحيات من جميع الأطراف لضمان سلم اجتماعي ومناخ صحي وسليم، يساعد في إنقاذ عدد من القطاعات الإنتاجية المتضررة من فترة الركود والتراجع في زمن “كورونا”، والتي اتخذت بشأنها إجراءات إسعافية، مهما كان تقييمنا لها، طيلة الفترة الوبائية.

وحسنا فعلت هذه الأطراف الاجتماعية الثلاث، بتسقيفها للاتفاق في مدة سنتين، من 2022 إلى 2024، بالنظر إلى كون هذه الفترة من عمر الولاية الحكومية الحالية، حاسمة في إيجاد أرضية لانطلاقة واعدة لعدد من القطاعات الإنتاجية الفلاحية والصناعية والخدماتية الوطنية التي يفترض أن ترافق بحزمة من الإجراءات العلاجية والداعمة حتى تؤتي نتائجها وتجتاز المرحلة الحرجة بُعيد الفترة الوبائية. وتسمح السنتان اللتان يغطيهما الاتفاق بضمان السلم الاجتماعي واستقرار الشغل وتوازنات المقاولات وميزانيات الحكومة، في انتظار الإقلاع المنشود، وتحيين الاتفاق الجماعي وإصلاحه وتوسيعه، بما يتجاوب مع تحسن الظرفية الاقتصادية والإنتاجية.

لا يعني التوصل إلى اتفاق جماعي واجتماعي وتوقيع محضره، انتهاء أزمة صامتة تعتمل في المجتمع، وتضرب بأطنابها في صفوف العاملين، وبشكل أكثر حدة في صفوف فاقدي الشغل، والوافدين عليه المتزايدين من فئات الشباب وأبناء القرى والبوادي، مع ارتباط أزمة الشغل هذه بتردي الخدمات الاجتماعية في قطاعي التعليم والصحة خاصة. لذلك ينبغي عدم الاكتفاء، في التخفيف من حدة هذه الأزمة، بمسارات الاتفاق الاجتماعي، بل بالتوصل إلى معقد اجتماعي شامل ملزم للجميع، كل من موقعه ومسؤولياته، باتخاذ إجراءات أو تدخلات مناسبة وناجعة بشأن أي توتر محتمل يعيد من جديد سؤال الاصطدام إلى الواجهة، فهشاشة الأوضاع المادية لفئات اجتماعية وأسر تراجعت مواردها في ضمان العيش الكريم لأبنائها، لا تدع مجالا للتراخي والتعويل على اتفاق اجتماعي محدود لإنهاء التردي والتراجع. وقد خبرنا، في فترات حكومية سابقة، كيف أن عددا من الاتفاقات الاجتماعية والجماعية لم تسهم إلا في تأجيل الأزمة وتوريثها للاحقين، بفعل عدم متابعة الاتفاقات بالتنزيل السليم والتحيين الدائم، والتقويم التتبعي لتنفيذها، وفق أجندة تضمن استدامة النفس الإصلاحي ورفع تحدياته وعقباته كذلك.

فالمكاسب والمكتسبات الحوارية والتفاوضية، لا تسمى كذلك إن لم تنزل من برج الالتزامات والتعهدات المقطوعة إلى أرضية العمل عليها وتنفيذها في مواعيدها المقررة وبالنجاعة المطلوبة. لهذا يتعين على الفاعل الحكومي بوصفه شريكا تنفيذيا قويا في الاتفاق الاجتماعي الثلاثي، كما يتعين على المؤسسة التشريعية بوصفها رقيبا على الأداء الحكومي في هذا الملف الاجتماعي، إظهار مزيد من تفعيل أدوارهما التنفيذية والرقابية البعدية في احترام الالتزامات ومنع أي إخلال بها، وإحداث آليات ومسارات لمراقبة سلسلة أو مراحل تنزيل الاتفاق والعمل به في أفق استنفاذ كل بنوده في الفترة التي يغطيها، لما في ذلك من دعم للجدية والمسؤولية وربط لها بالمحاسبة، وتعزيز الثقة في خطاب الإصلاح وفي توجهات البلاد لكسب رهاناتها الوطنية التنموية الصادقة، بعيدا عن أية ديماغوجيا أو أوهام ربح معارك انتخابية أو نقابية ضيقة وصغيرة ومؤقتة، تثير التباسات واشتباهات أكثر مما ترفع التحديات أو تضع البلاد على سكة الموثوقية والمصداقية والجدية والتجرد من أي اعتبارات سياسوية أو حزبوية أو فئوية ضيقة.

إن المطلوب بعد الارتياح المعبر عنه من اجتياز التفاوض الاجتماعي عقباته، والنجاح في توقيع محضر التزام ببنود الاتفاق الذي أسفر عنه، والتوافق على ميثاق وطني لمأسسة الحوار الاجتماعي، رَفْعُ درجة التعبئة الجماعية لكسب معركة التنمية وإنتاج الثروات التي يجد فيها كل اتفاق اجتماعي أو تعاقد جماعي مضمونه الحقيقي وامتداداته الفعلية في ما بعده، من نتائج تعود بالنفع على الدورة الإنتاجية الوطنية وعلى قيم المواطنة الحقيقية المرعية في بلادنا والمحمية بمنظومتها الدستورية والحقوقية والقانونية، وقبل ذلك بمنظومتها الأخلاقية الجماعية المتجذرة والموروثة في التضامن والتعاون والتعبئة، والتي اجتزنا بها وبأمان كل الفترات العصيبة التي شهدها تاريخنا في الكفاح الوطني وفي مقاومة عوامل التخلف والحرمان والندرة والخصاص والهشاشة.

فالنجاح الحقيقي لا يتوقف عند حدود توقيع الاتفاق أو تبادل التهنئة، وإن كان ذلك مطلوبا يُشكر عليه القائمون والعاملون الذين قدموا من نواياهم الحسنة ومن مبادراتهم وطاقاتهم، ومن آرائهم واستشاراتهم ما انتهى إلى عمل ملموس ومشترك معتبر، وإنما النجاح الحقيقي يمتد ليشمل ما ذكرناه سابقا من تأسيس هذا الاتفاق الجماعي داخل الدينامية التنموية الوطنية لفلسفة النموذج التنموي الجديد، المتسع بكل مداخله ومقارباته ومخرجاته لاحتضان الإشكالات الكبرى للتنمية البشرية والمادية الوطنية. سيقول قائل إن الاتفاق الاجتماعي هو ذو طبيعة جزئية وظرفية ومؤقتة ومحدودة الأثر والزمن، هذا في ظاهر الأمر، لكنه في عمقه هو تعبير كامل عن إرادة جماعية تعبوية يمكن الاحتذاء بها وتوسيعها في الميثاق التنموي الجماعي، فهو تمثيل مصغر لروح وفلسفة الحوار والتشاور والتفاهم والاتفاق، وبهذا يكون تنفيذه ومراقبة تنزيله وإنجاحه وتحقيق كل بنوده وتطلعاته، مهما كانت آثارها محدودة في الزمن وفي النتائج، محكا لاختبار الجدية والمصداقية والمسؤولية والثقة في أداء الفاعل الحكومي والفاعل الاقتصادي والفاعل الاجتماعي. وباختصار، فإن هذا الاتفاق الاجتماعي تدريب على ربط الديمقراطية بالتنمية، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعلى النجاح في رهان آخر شديد الالتصاق بالحوار الاجتماعي، الذي طالما عجز المتحاورون والمتفاوضون، وخاصة الطرف الحكومي، عن رفع تحدياته وتفعيله، حتى صار حلما، ألا وهو إرساء نموذج جديد للحوار الاجتماعي المؤسستي والمنتظم والمستديم والمنتج: إنها أربع محددات وتحديات أمام هذا الحوار الذي لا ينتهي عند توقيع مخرجات الاتفاق، بل إنه يبدأ كمدخل سلمي وديمقراطي لحل النزاعات والتوترات الاجتماعية القائمة والمحتملة، وليستمر بضمانات مؤسستية تقطع مع العشوائية والنزعات الفردية والمعزولة والطارئة، وبانتظام وجدولة زمنية متتابعة غير متباعدة، وباستدامة تقطع مع النزعات الظرفية والاستثنائية، وبنجاعة تَظهَر من آثاره الإيجابية في إزالة التوترات ورفع الأضرار، وتحقيق العيش الكريم والسلم الاجتماعي، وتوفير شروط وظروف آمنة للانتقال التنموي المنشود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق