قضايا وآراء

فشل الرهان على العودة إلى الوراء

أثبتت الجارة الإسبانية خلال شهر من إعادة بناء علاقاتها مع المغرب على أسس جديدة ومتينة من الوضوح والصراحة والتفهم والاستجابة لمنطق التاريخ والجوار المشترك، أنها ماضية في الطريق المستقبلي الأسلم، والنهج الديبلوماسي الأحكم والأعلم في تدبير المصالح الاسترتيجية المشتركة مع المغرب الدولة السلمية المحورية الموثوقة في المنطقة لضمان الاستقرار، وضمان الولوج الآمن لخدمات التبادل والتواصل والتعاون، وإفشال كل رهان على العودة إلى الوراء.
فقد عبر رئيس الديبلوماسية الإسبانية ووزير خارجيتها السيد خوسيه مانويل ألباريس، أصدق ما يكون، وبصرامة وثقة كاملتين، واعتزاز بمشروعية ومبدئية القرارات التي اتخذتها الدولة الإسبانية بشأن تطوير موقفها من نزاع الصحراء، في اتجاه دعم مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية في إطار السيادة المغربية ووحدة المغرب الترابية، وفي رد مباشرة منه على العربدة الأخيرة للعصابة الحاكمة في الجزائر، وتدخلها السافر في القرار السيادي الإسباني الذي لا يعني الجزائر في شيء، بقدر ما يعني التصدي للأجندة العدوانية لعصابتها الحاكمة، قال ألباريس: “لن أؤجج خلافات عقيمة، لكن أقول إن إسبانيا اتخذت قرارا سياديا في إطار القانون الدولي، وليس هناك شيء آخر يمكن إضافته”، في إشارة منه إلى الحسم النهائي للجدل في موضوع إمكانية تراجع إسبانيا عن قرارها بخصوص الموقف الجديد والمتطور بشأن حل النزاع المفتعل حول الصحراء. وهذه الإشارة في غاية الإيجابية والوضوح والشجاعة والحسم، في مواجهة الأطماع العدوانية للعصابة الحاكمة في الجزائر، التي لم تذخر سبابا وشتما وتخوينا وقطعا للعلاقات وتمرغا في التراب إلا وانخرطت فيه، لثني إسبانيا وترهيبها بمذموم الأصوات النشاز، وترغيبها بمشموم الغاز.
ومن آخر هذه التصريحات الإسبانية الإيجابية كذلك، والمواقف الواعية الحاسمة والجادة، التي أدلى بها رئيس الديبلوماسية الإسبانية ووزير خارجيتها، ما عبر عنه ردا على التشكيك في نوايا المغرب وفي ما إذا لم يكن ما يقوم به من أعمال البحث والتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الأطلسية يشكل خرقا للقوانين البحرية، وتجاوزا للحدود المغربية، حيث أجاب بكل اطمئنان واقتناع وثقة، بأن المغرب يمارس سيادته داخل حدود مياهه البحرية التابعة له، وأضاف أنه “لا توجد أي مشكلة بين المغرب وإسبانيا بشأن عمليات التنقيب التي تجريها المملكة المغربية في المياه البحرية على الواجهة الأطلسية”، مشيرا إلى أن هذه العمليات تُجرى داخل الحدود البحرية المغربية، وليست قريبا من الحدود البحرية الإسبانية. وهو التصريح نفسه الذي عبر عنه رئيس جزر الكناري بتكذيبه لمزاعم قيام المغرب بالتنقيب عن النفط خارج حدوده البحرية، قائلا: “على الجميع أن يكون مرتاح البال من هذه الناحية”. وبهذه التصريحات والتأكيدات المتواصلة، وخطاب الطمأنة والثقة في سلامة الإجراءات السيادية المغربية، وفي الارتياح لالتزامات الطرف المغربي، يكون الطرف الإسباني المعني بالحملات التشويشية والتحريضية الأخيرة لدفعه إلى خلق أزمة جديدة مع المغرب، قد قطع الشك باليقين، وقطع في الآن دابر هذه الحملات التحريضية المغرضة ضد المغرب. ونحن نعلم أن متربصين دائرة السوء بالعلاقات الإسبانية المغربية المتميزة، والتي ستزداد تطورا وتقدما بما انفتحت عليه من مشاريع كبرى وقوية للمستقبل، لن يهدأ لهم بال في مساعيهم لإسقاط كل التفاهمات بين البلدين، وتطويقها بالخلافات المثارة بين الفينة والأخرى، وإغراقها بالشكوك والنوايا السيئة، والحد بالتالي من دينامية تشبيك المبادرات ومشاريع الشراكات بين البلدين، فمن تُهمة خيانة “قضية الصحراء” الموجهة لإسبانية، وتهمة التنازل عن ثغري سبتة ومليلية الموجهة للجانب المغربي، إلى شُبه التنقيب عن البترول في مياه متنازع عليها، إلى استغلال حوادث الهجرة غير الشرعية للتباكي على الإضرار بالمصالح الإسبانية، إلى اتهامات للمغرب بوجود نوايا عدوان أو هجوم وقصف، إلى التحذير من الثقة في المغرب، والغمز في نواياه، وتخيل سيناريوهات حرب قادمة وغزو وشيك… كلها علامات على إفلاس الخيال العدواني المتربص بالعلاقات بين البلدين، وعجزه عن تخيل الإمكانات السلمية الواسعة التي تحفل بها المبادرات الجديدة للتقرب بين البلدين وتقريب وجهات نظرهما في العديد من الملفات الثنائية والإقليمية والدولية.
إن ما يحرك هذه النعرات والنزعات العدوانية يتجاوز الشعبين والبلدين الجارين، ولا يرتبط بتاتا بمصالحهما المتبادلة، ولا بنضج تجربتيهما السياسيتين والديبلوماسيتين في تكريس علاقات الاحترام المتبادل وحسن الجوار، والتدبير الحكيم للخلافات والمخاطر والطوارئ، وإنما يرتبط بأجندة نظام موتور بجوارهما، لا يريحه بتاتا تحييد قضية النزاع المفتعل حول الصحراء من العلاقات المغربية الإسبانية، ولا تقدم إسبانيا بإزالة الغموض والالتباس والتذبذب في مواقفها من قضية الحل السياسي لنزاع الصحراء، عن طريق إشادتها بمبادرة الحكم الذاتي للصحراء في إطار السيادة المغربية، كحل واقعي وجدي ودائم وشامل. ولأن هذا المسار الصحيح والسليم الذي أخذته العلاقات الإسبانية المغربية سينهي مشروع العصابة الحاكمة بجوارنا للتحريش بين الشعوب والنميمة السياسية والنفخ في الخلافات وتوسيع الاستفزازات وتبادل الشتائم، فإن هذه العصابة زادت من صبيب الغاز على الحرائق التي تتفنن في إشعال ألسنة نيرانها في المنطقة، وتوجيه أصابع الاستغاثة، والدعوة بالويل والثبور على “المرّوك”.
لقد فشلت الرهانات الإعلامية والحملات السياسية العدوانية في جر إسبانيا والمغرب إلى أتون معارك وهمية خاسرة وتراجعات أكثر وهمية منها، باستغلال عدد من الملفات المفتوحة أو العالقة بين البلدين للتأثير في مستقبل علاقاتهما الواعدة، حيث نجحا ـ في ما فشلت فيه وعجزت العصابة الحاكمة في الجزائرـ في تطويق نيران الخلافات المستعصية، بمزيد من العمليات الإطفائية الديبلوماسية السلمية والهادئة والمتوازنة، وبفضل السياسة الحكيمة لقياداتهما ومؤسساتهما، في رهانها على المستقبل وعلى استدامة التوجه إليه، والثقة في قدراتهما الحضارية والثقافية والأخلاقية قبل كل شيء على تخطي العقبات.
تنتظر إسبانيا والمغرب فرص كبيرة للنهوض، ليس فحسب بأسئلة الأمن والهجرة والتعاون والسلام، بل بترقية شراكتهما الاستراتيجية المتقدمة إلى مستوى غير مسبوق في المنطقة، يعود بالنفع والخير على ضفتي المتوسط بواجهتيهما الأوروبية والإفريقية، والمطلوب استدامة هذا التوجه، والانفتاح التام على كل القضايا الحيوية لكلا البلدين، والتفهم المتبادل لقلقهما وما يزعجهما، وتقدير طموحات كل بلد في تحقيق مصالحه مع الأخذ بعين الاعتبار لمصالح البلد الآخر، بل في إطار تكامل هذه المصالح، وباحتكام تام إلى الشرعية وإلى القانون، وباستناد تام كذلك إلى مبدأ الاحترام المتبادل لعلاقات حسن الجوار وللسيادة وللحقوق المقررة، واعتماد مرجعية المعاهدات والاتفاقيات الموقعة والملزمة.
قدَرُ المغرب وإسبانيا التاريخي والحضاري والمستقبلي، مهما عنت الخلافات الطبيعية والعادية بينهما، مما لا يفسد للود والجوار قضية، أن يواصلا في ظل تطلعاتهما النبيلة، واستقرار نظاميهما، وانفتاح مؤسساتهما، وزخم المبادلات بينهما، والوشائج التي تجمع شعبيهما، أن يظلا مهما كانت التحديات وحجم الإكراهات، أوفياء للحوار الدائم والمنتظم والمستمر لإزالة الشوائب العالقة، ومد جسور التواصل، وتقوية روابط الصداقة والتعاون.
وما نعرفه من أخلاق الديبلوماسية المغربية العريقة أن إسبانيا دولة وشعبا وأرضا، لن تجد من المغرب والمغاربة إلا كل التقدير لتوجهاتها السلمية والتعاونية ولنواياها الحسنة تجاه المغرب، وكل الانفتاح على تفهم المخاوف الإسبانية بشأن قلق التغيير والتجديد والتطوير، وستثبت الأيام أن الحكمة المغربية، التي تقود التحولات الإيجابية التي ينخرط فيها بلدنا لمناهضة الكراهية والعنف، ومواجهة مخططات الابتزاز والاستفزاز، وإرساء دعائم السلام والديمقراطية والتنمية، ودولة المؤسسات والحريات والحقوق، ستخلق شروطا أكبر وظروفا أوفر وآمن لشراكات استراتيجية حقيقية ثنائية وإقليمية، تجد فيها إسبانيا موقعها الرابح المستحق والمتقدم، والكفيل بالرد العملي والميداني على حملات التضليل والكذب والتخويف والترهيب والتشويش والتشكيك والوعيد والإنذار، التي أخذ الفاعل السياسي الحكومي الإسباني علما وخبرة بدسائسها وسمومها، ويقوم من جهته بالتحييد المتواصل لمخاطرها على العلاقات الثنائية بين البلدين، على أمل أن تتكفل بجرفها وإقبارها مشاريعُ الشراكة والتعاون الثنائي المنتجة بين البلدين، والتي تهم أكثر من قطاع ومجال.
ولهذا فليعمل العاملون والفاعلون في البلدين، بدل الالتفات إلى الوراء، والانجرار إلى الابتزازات والاستفزازات الحقيرة لأجندة نظام بائس معيق عائق متأبط شره ومَكْره وغدره بجوارنا، وليمض قطار العلاقات الإسبانية المغربية إلى الأمام، مخلفا وراءه دخان الحرائق وأوهام المحروقات… وعصابة ضاربة في الاقتيات على الجيف وبرسيم الملاعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق