الموقف الأسلم والاختيار الأنسب
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
جاء في الذكر الحكيم: “كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، كذلك ظهر الحق وزهق الباطل، وذهبت الجفوة بين المغرب وإسبانيا، بعد أشهر عسيرة من التآمر على العلاقات بين البلدين الجارين، وبعد كل المحاولات العدوانية لجر إسبانيا إلى خندق معاداة الوحدة الترابية للمملكة، وضرب استقرارها وأمنها، والتأثير في مصالحها الحيوية، ولولا صدق النوايا المغربية، وحسن التصرف والتأهب لكل المخاطر، واليقظة الديبلوماسية العالية في إدارة الأزمة بين البلدين، وكذا التمسك الإسباني بخط الرجعة، ومراجعة صفحات الإساءة، وتصحيح الخطأ، لكانت العلاقات الاستراتيجية بين البلدين لُقْمَةً سائغة بين فكي التآمر الإقليمي الذي تقوده العصابة الحاكمة في الجزائر، والتي ورطت الجانب الإسباني في تصرفاتها المتطرفة والصبيانية والاستفزازية المكشوفة والمفضوحة أمام العالم.
لم يكن ممكنا التوصل إلى خارطة طريق جديدة لإدارة الجوار والحوار، والتوجيه المستقبلي للعلاقات بين البلدين الجارين اللذين اشتركا في محطات متلاحقة من تاريخهما العريق في الحلو والمر، وخَبرا الآثار المدمرة للقطائع والحروب والنزاعات والتوترات، ويتواجد في أرض كل منهما جزء من هذا التاريخ المشترك الذي يحفز على استثماره استثمارا إيجابيا لصالح شعبيهما، لم يكن ذلك كله ليحصل لولا أنهما أمسكا بزمام المبادرة، وغلبا منطق الحوار والتفاهم وبحث سبل مد الجسور بينهما، واستغلا إلى أبعد الحدود نقط القوة في علاقاتهما واستثمرا التراكمات الإيجابية لمبادلاتهما ومصالحهما المترابطة والمتقاسمة، لإحداث نقلة نوعية متميزة في شراكتهما، على أساس من الاحترام المتبادل والحرص على الأمن المشترك. هذا الإحساس المشترك بالخير القادم، هو الذي جعل طبول الحرب تخرس وتخفت وتخنس، وأعلام الشر تنتكس، وشعارات الغضب ترتكس، إذ لم يكن أمام البلدين من خيار آخر ضد التصعيد والاستفزاز، إلا خيار الاعتراف بما كان يجب الاعتراف به قبل عقود من الزمن، وهو الاعتراف الشجاع بشرعية ومصداقية الموقف المغربي من النزاع المفتعل حول الصحراء، ذلك النزاع الذي لم يؤد ولا يمكن أن يؤدي في حال إبقائه جرحا نازفا في المنطقة إلى ما لا نهاية، إلا إلى توسيع رقعة الضرر والسقوط الأخلاقي والديبلوماسي، وزعزعة الثقة في كل مشاريع الصداقة بين الشعوب والشراكة الاستراتيجية والتعاون على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب والاتجار في الممنوعات وفي البشر مما تعج به بؤر التوتر المتروكة بدون حل وبدون تفكيك لكل مبررات بقائها وتوسعها وتفشيها.
لقد أدرك عقلاء إسبانيا مقدار خسارة بلادهم لحليف قوي ذي مصداقية وتاريخ عريق وهوية متجذرة في المنطقة، في غفلة منهم عن احترام مقدساته وأمنه واستقراره ووحدته الترابية، وهو الحليف الذي لم يبدر منه تجاه إسبانيا وتجاه الشعب الإسباني أي أذى أو شر أو ضرر. وإسبانيا إذ تتدارك هذا الوضع بالإصلاح وبمبادرة الاعتراف بمصداقية الاقتراح المغربي للحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية، كأساس وحيد واقعي وعملي وجدي لتسوية النزاع المفتعل، إنما تفعل ذلك ليس لإرضاء حليفها المغربي والاستجابة لمطالبه فحسب، وإنما لملاحظتها اتجاه التاريخ الذي لم يعد في صالح نزعات الانفصال والتفتيت لأراضي الدول، والتي تدب حتى في الداخل الإسباني نفسه، وتنذر بمخاطر جمة في حال استغلال واستعمال بلدان الجوار لها في تدافعاتها وتنافسياتها الإقليمية. ومن ثمة وَضَع القرار الإسباني حدا بين الجد واللعب في هذا الملف الانفصالي الشامل الذي لا يصيب المغرب وحده بشرره وفتنته، بل يصيب كل من ظلمه وغمطه حقه الشرعي في أراضيه المحررة والمسترجعة والمحتلة أيضا.
لن يتبقى في هذا الملف الاستعماري والانفصالي الذي عمر أكثر مما يجب، وفي هذه اللعبة المملة والمستفزة لمصالح كل الدول التي تربطها بالمغرب علاقات ومعاهدات وصداقات وشراكات ومبادلات مثمرة، إلا هذا الحطام المركوم وهذه الشذرات الشاردة والشطحات الذبيحة والفقاعات الإعلامية الممتلئة غيظا وحقدا وكراهية ورهابا وتهديدا، كالتي تنتفخ وترغي وتزبد في الساحة الإعلامية الإسبانية الداعمة للانفصال ولمرتزقة الحروب، والمقتاتة من شراء الذمم ومن رائحة الغاز والجيف، وستبدأ تباعا في الانطفاء والأفول والغروب إلى غير رجعة، فالمغرب الدولة وإسبانيا الدولة يدركان أن مسألة إنهاء ذيول تاريخ الإساءة وتبعاته مسألة وقت فقط، وأن قطار الاحترام المتبادل وشراكة رابح ـ رابح قد وُضع على سكته الصحيحة، بعد توقيع حزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الرائدة والمتقدمة برعاية ملكية سامية، وأن هذه الاتفاقيات الثابتة في مبادئها وأصولها والمتحركة والدينامية في فروعها وتطبيقاتها هي الباقية والنامية عبر الأزمنة القادمة، مهما تعاقبت الحكومات التي ستتولى تفعيلها وتحيينها وتطويرها، أي أنهما يدركان أن الزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يبقى ويمكث في الأرض.
أما الحالمون النائمون المتقلبون في الجمر الذي أوقدوه، فإنهم لا يزالون يعتقدون أن قرار الدولة الإسبانية الصريح والقطعي بالتوجه إلى الاعتراف بمغربية الصحراء عبر تثمين خيار الحكم الذاتي كأساس للحل التفاوضي والسلمي النهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، هو مجرد انحناءة عابرة للعاصفة، سيعقبها التراجع إلى الوراء، ويترقبون من الفاعل السياسي الدولتي الإسباني أن يتراجع في القريب العاجل عن هذا القرار غير المرضي للنزعات العدوانية الرجعية واللاتاريخية واللاواقعية، وهم بذلك يواصلون الانزلاق إلى الخلف، والتوغل بأقدامهم العارية في الأوحال والأوهام التي ستقبرهم وتطمرهم مع مخططاتهم إلى غير رجعة، حينما سيكتشفون في مقبل الأيام أن لا أمريكا ولا إسبانيا ولا المنتظم الدولي ولا منظمة الجامعة العربية ولا حتى أغلبية الدول الإفريقية ودول العالم المعمور ستتراجع عن أمر قضي بعد استفتاء وتقليب للنظر وأخذ للمستجدات وللتطورات التي انتهى إليها النظر السديد في ملف النزاع حول الصحراء المغربية في الأروقة الأممية.
قال بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الإسبانية كلمة للتاريخ وأمام وسائل إعلام بلاده، عقب عودته من زيارته الناجحة بكل المقاييس إلى المغرب، أن “الموقف الذي اتخذته إسبانيا من قضية الصحراء هو الاختيار الأنسب والممكن”، مما يعني أن الرجل ومعه رجال الدولة الإسبانية لم يكن أمامهم من خيار آخر ممكن ومناسب، من بين الخيارات الأخرى التي تعترض بها فعاليات سياسية ومدنية إسبانية على قرار حكومتها، إلا خيار الرضوخ، ليس للمغرب، بل للحتمية التاريخية الحاسمة بين اللعبة القديمة المنتهية الصلاحية والجدية والمصداقية والمسؤولية التي يفرضها المنعطف التاريخي الجديد والواعد للعلاقات المغربية الإسبانية، أي الاختيار بين زبد الوهم الانفصالي الاستفزازي والعدواني، والمصالح الوحدوية والمشتركة التي تنفع الشعوب وتربح رهانات وتحديات الأمن والاستقرار والتعايش وجني ثمار الشراكات المتبادلة.
إن إسبانيا بنظرتها الاستشرافية للمستقبل والتوقعية لمآلات النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، قد تفادت السيناريو الانفصالي الجزائري الأعمى والمزمن والمأزوم الذي شل قدرات هذا البلد الجار على التفكير السليم والتوقع الصائب واتخاذ الموقف المناسب.