قضايا وآراء

الأحزاب الجادة وسؤال الديمقراطية

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

“نخص بالتقدير والإشادة الأحزاب السياسية والنقابات الجادة، التي كرسها الدستور كفاعل أساسي لا محيد عنه، في الدولة والمجتمع، اعتبارا لرصيدها النضالي، ولما تتحلى به من وطنية صادقة، وروح المواطنة المسؤولة، في معالجة القضايا الكبرى للأمة.”
من الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 61 لثورة الملك والشعب/ غشت 2014
اختتمت عدد من الأحزاب السياسية الوطنية عقد مؤتمراتها الوطنية في مواعدها القانونية، مجسدة بذلك تماسكها الداخلي،وانضباطها لاستحقاقاتها التنظيمية ووفاءها بالتزاماتها، وحرصها على تقديم صورة مشرفة عن الممارسة الحزبية النظيفة والمسؤولة التي تحفز المواطنين والشباب منهم خاصة للانخراط في العمل الحزبي والسياسي، والثقة في النضال الديمقراطي عبر المؤسسات الدستورية وعبر الآليات المقررة والقنوات التأطيرية ذات المصداقية. وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن نصفق لنجاح هذه الأحزاب، مهما اختلفنا معها، في كسب تحديات تفعيل ديمقراطيتها الداخلية، وربح رهانات التأطير الجيد والإشراك الفعلي لمنخرطيها ومناضليها في جميع الاستحقاقات التي تخوضها.
وآخر نموذج لهذا النضج الحزبي والسياسي هو الدينامية التي عرفتها أشغال المؤتمر الوطني السابع لحزب التجمع الوطني للأحرار يومي 04 و05 مارس الجاري، الذي سبقته سلسلة من الجولات والمؤتمرات الجهوية والبرامج التواصلية في أجواء من التعبئة، وتوج بذلك مسارا ديمقراطيا وتواصليا طويلا من العمل الشاق والمضني والجاد والمسؤول الذي أهل هياكل الحزب ومنظماته لتكون في موعد مع هذا الاستحقاق الحزبي الكبير في وقته المحدد، وبكل استعداد وتأهل وثقة في قيادته وفعالياته الشبابية والنسائية وكافة أطره ونخبه ومناضليه لوضع حزبهم في قلب المشهد السياسي الوطني، وإعادة ضخ دماء جديدة وكفاءات فيه، والاستجابة لتطلعات ليس مناضلي وأطر الحزب فحسب، بل تطلعات جميع المواطنين لرؤية مشهد حزبي وطني يعبر بالفعل عن اختياراتنا وقناعاتنا ومبادئنا الدستورية والديمقراطية، وقادر على النهوض بمهامه المسندة إليه في التعبئة والتأطير والإسهام في المجهود الجماعي الوطني لرفع هذا البلد إلى مصاف البلدان الرائدة في الحريات والحقوق والديموقراطية.
لقد قدمت التجمعيات والتجمعيون درسا في الديموقراطية التنظيمية الداخلية للأحزاب، بالتزاماتهم الجادة والمسؤولة بإجراء استحقاقاتهم التنظيمية في مواعدها، والانفتاح على المواطنين وعلى مناضليهم كل من موقعه وجهته وإقليمه بالاستشارة والإشراك والحوار والتعبئة والتواصل والدعم وتوسيع قاعدة استقطاب النخب والكفاءات،وبتشبثهم بالديمقراطية الداخلية في بناء وهيكلة المؤسسات والمنظمات الموازية واللجن والمجالس الحزبية والفيدراليات ، وهو ما شهدناه كعمل دؤوب متواصل قبل المؤتمر وأثناءه وبعده، إذ لم تنحصر الجهود في مجرد إنجاح العمليات الانتخابية الوطنية والحزبية ولا توقفت عند صناديق الاقتراع، بل واصلت مسار البناء وتوسيع المكتسبات وتنزيل توصيات المؤتمر الوطني وبرنامج الحزب،والتعبئة لعقد ندوات ولقاءات جماهيرية تجسد هذه الدينامية الجديدة التي بعثها الحزب في العمل السياسي الوطني الجاد والمسؤول.
وسواء اتفقنا مع حزب التجمع الوطني للأحرار أو اختلفنا معه في مضامين وتفاصيل برنامجه السياسي،فإنه لا يسعنا من باب الإنصاف والعدل إلا أن نحييه ونحيي قادته ومناضليه على رفعه للتحديات المطروحة في المشهد الحزبي الوطني بمبادراته في الاتجاه الصحيح من أجل تأهيل ممارسته الديموقراطية لتنسجم مع التوجهات الدستورية والديمقراطية والحقوقية الجادة في بلادنا، ونعتبر مكتسبه هذا إلى جانب المكتسبات التي حققتها أحزاب سياسية أخرى جادة على نفس الطريق والمنوال، مكسبا للوطن برمته، ونموذجا ينبغي على أحزابنا الوطنية الأخرى التي تعاني من أزمات تنظيمية داخلية في تصريف الفعل الديمقراطي، أن تحتذي حذوه في إعادة بعث الحياة في مواتها، وإحياء الرميم في عظامها، وبناء نموذج تدبيري حزبي جديد يقطع مع كل أشكال التردد والتأخر والجمود والعثرات، والاستفراد بالرأي والاستبداد بالقرارات، وتهميش الكفاءات وإقصائها، وهي الممارسات التي نفَّرت بها هذه الأحزاب مناضليها المخلصين ونخبها الوفية، وانعكست آثارها السلبية على المواطنين وعلى الشباب خاصة،بتوسيع دائرة الإحباط والتشكيك والعدمية والعزوف عن العمل الحزبي والسياسي برمته، وفقدان الثقة في المؤسسات والهياكل التأطيرية والتعبوية، خصوصا تلك المؤسسات والهياكل الصورية الفارغة التي قدمت أسوأ صورة عن الديمقراطية الحزبية الداخلية، وشجعت على التحلل من الالتزامات، وشوهت النضال الحزبي، فضلا عن تمريغ تاريخها ومرجعياتها وأدبياتها في التراب، ونشر الصراعات والتطاحنات والتذمر والسخط في بنياتها التنظيمية.
إن هذه الهيئات السياسية التي باتت غير جادة، فتحولت الأنظار عنها، بفعل خروقاتها العديدة لقوانينها التنظيمية،وعدم احترامها لالتزاماتها،وعدم تجاوبها مع انتظارات مناضلاتها ومناضليها، وعدم تفاعلها مع الأحداث والمستجدات المتلاحقة، وعدم عقدها لاجتماعاتها المنتظمة ولمؤتمراتها واستحقاقاتها الانتخابية الداخلية التي لا تقبل التأجيل أو الانتظار،هي مدعوة إلى وقفة مع الذات، إن أرادت البقاء على قيد الحياة، والخروج من حالة الانكماش والغموض في تدبير شؤونها التنظيمية، واستدراك ما تبقى لها من جاذبية أو مصداقية بعد الانحداروالتراجع في أدائها السياسي والحزبي والانتخابي، وإلى أن تغير قياداتُها من مسلكياتها وأساليبها التحكمية والفردية والاحتكارية المتجاوزة والمدمرة، وتعمل على تفعيل ما تفرضه قوانينها من التزامات، وتعطي من نفسها قدوة لشبابها وأطرها وكافة مناضلاتها ومناضليها، في الالتزام بالديمقراطية والاستثمار في التربية الحزبية والجمعوية عليها، قبل أن تكون هذه الديمقراطية شأنا سياسيا عموميا ومطلبا عاما لدمقرطة مؤسسات الدولة وحكامة النظام، ولا بديل عن هذه الحكامة والديمقراطية الحزبية في الاستقطاب والتعبئة ورد الاعتبار للعمل السياسي الحزبي النبيل الذي طالما كان مدعاة فخرنا واعتزازنا بالمغرب الديموقراطي والتعددي، ومحط إشادة وتقدير من قبل ملك البلاد، سواء في خطبه السامية إلى الأمة، أو في رسائل التهنئة الموجهة إلى الأحزاب الجادة بعد إنجاحها الديمقراطي لاستحقاقاتها الانتخابية التنظيمية الداخلية، وهي الخطب والرسائل التي لم تخل من إشارات عميقة إلى تقدير أعلى سلطة في البلاد للجدية السياسية وللأحزاب الجادة، على الأداء الجيد لأدوارها واختصاصاتها الدستورية المنوطة بها، وعلى تفعيلها للآلية الديمقراطية في انتخابات هياكلها وتنظيماتها، وتجسيد النهج الديمقراطي في تدبير الرأي والاختلاف في برامج عملها واجتماعاتها وتأطيرها الجيد لمناضلاتها ومناضليها، بل للنقاش العمومي الدائر حول إرساء المجتمع الديمقراطي الحداثي والتنموي الذي تعتبر الأحزاب السياسية الجادة والمسؤولة والمواطنة أحد أعمدته الأساس.
فمن واجبنا ـ كديمقراطيين ـ وتوطيدا لمصداقية الممارسة السياسية، دعم التأهيل الذاتي للأحزاب الوطنية بالعمل على تحرير الديمقراطية الحزبية من الارتهان للحصانات الشخصية ولطلاب الامتيازات والزعامات التي تستديم البؤس السياسي والقيادي، وتسطو على كل الاختصاصات وتحتكرها، دون أن تقدم شيئا يذكر لصالح العمل الحزبي النشيط والنظيف والنبيل أو في خدمة المصالح العليا للوطن والمواطنين، مستحضرين في ذلك ما نبه إليه جلالة الملك في خطاب افتتاح السنة التشريعية 2007 /2008″ من أن “التعارض الحقيقي، الذي علينا مواجهته، هو بين الديمقراطية والتسلط، والتقدم والتخلف، والعمل والتواكل، والانفتاح والانغلاق.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق