قضايا وآراء

من كورونا إلى أوكرانيا

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس /

لم تترك الحرب في أوكرانيا فرصة للبشرية لالتقاط الأنفاس بعد المعركة المنهكة لأزيد من سنتين مع وباء كورونا، الذي أصاب القاصي والداني في أرجاء المعمور بكل الويلات الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأن الحرب في أوكرانيا بكل تداعياتها الخطيرة على الأمن الدولي والسلم العالمي هي ما كان ينقص مشهد ما بعد كورونا لاكتمال المأساة الإنسانية واستمرار المعاناة في هذه القرية الصغيرة المسماة عالما، البطولة فيها اليوم هي لمن ينتصر للسلام والتعايش والتعاون والتفاهم، وينتصر على نزعات الشر والعدوان والتخريب التي تراود الإنسان في نفسه الأمارة بالسوء، وتصيبه في مقتل قبل أن تصيب غيره. أولم يشتعل فتيل الوباء بمجرد شرارة مستصغرة في بقعة صغيرة من هذه القرية القاصية من العالم لكي تتخطى الحدود في أسرع من لمح البصر ويعم لهيبها كل القارات والدول وتتعبأ لها المختبرات والجهود وتسقط فيها ملايين الأرواح بدون تمييز بين قوي وضعيف ومؤمن وكافر وغني وفقير وظالم ومظلوم وطبيب ومريض وأبيض وأحمر… وتغلق بسببها الحدود وتتوقف حركة السير والجولان والطيران، وتتقطع السبل بالناس، وتتجمد شرايين الحياة الاقتصادية والمعاملات المالية والإنسانية، ويفتتن الناس في دنياهم ومعاشهم، وينفتح جرح كبير في جسد الإنسانية، نحتاج إلى عمر بحاله لتضميده ومداواته، حتى إذا جاء الخلاص، لم تعدم البشرية من جديد من سيتسلم مشعل حرب كورونا ليشن الحرب على الجرح ويحشوه ملحا وبارودا ويفتقه بأسلحة الدمار، ويبقيه مفتوحا على المجهول، وشاهدا على ديمومة العذابات الإنسانية التي لا تكاد تغادر عذابا حتى تقع في أشد منه.
كنا نعتقد أن الحروب والأوبئة والمجاعات والخوف والرعب والفتن الدموية الكبرى هي من مخلفات العالم القديم، ومن آثار التوحش والتخلف والهمجية والجهل، فإذا بعصر العلم والتقدم الحضاري والنظام العالمي الجديد يحمل في حضنه وبطنه بذور التوحش وأجنته، ويضع مولوده الواعد بكل المخاوف والمهالك والآلام في طريق الأجيال القادمة التي اعتقدنا أننا سنورثها عالما صالحا آمنا ورائعا لتعايش آخر ممكن منزوع من سلاح الدمار والهلاك والكراهية، وفي ظل الرعاية المتبادلة للمصالح وتدبير المخاطر، ودرء الأضرار والمفاسد.
لقد نبهت الحرب على كورونا إلى أهمية المسار المشترك للتعاون الدولي من أجل مجابهة ما يتهدد الحياة البشرية على الأرض، وجاءت حرب أوكرانيا لتزيد تأكيد هذا التنبيه وتكريسه، إذ بات ما يصيب بقعة صغيرة في هذه القرية الصغيرة المسماة كوكبا أرضيا وعالما، بضرر أو فتنة أو عذاب، يصيب بالضرورة سائر البقع بكل الشرور الممكنة في الأرواح والأرزاق، ومهما استصغرنا هذه الشرارات المتباعدة أو قللنا من امتداداتها وخساراتها وحصرناها في الزمان والمكان، فإنها لا محالة، ستحرق الأخضر واليابس، بحكم القرب العالمي الشديد والالتصاق التكنولوجي والمالي، والترابط الثقافي والحضاري الذي قلص المسافات وألغى الحدود وعبر الأزمنة والأمكنة، وستكون كلفة إطفاء هذه النيران والحد من آثارها المدمرة على الإنسانية جمعاء، أكبر بكثير من كلفة إشعالها، أما من سيؤدي ثمن هذه الكلفة فإنه يتجاوز مجرد الطرفين المباشرين لإشعال الفتيل وإطلاق الشرارة، إلى كل فرد من أفراد المجتمع الدولي والقرية العالمية الصغيرة، وهذا هو المصير الإنساني المشترك في السراء والضراء وفي المنشط والمكره؛ ما يصيب جارك من قرح يصيبك بدورك، كما يصيب جارك الآخر إلى أبعد جوار مقطوع في هذه المسافة الضيقة والمساحة المتلاصقة من عالم اليوم الذي هو بيتنا جميعا.
إن الحرب في عالم اليوم ليست نزهة خارجية ولا عملية خاطفة في مكان ما، ولا بدون انعكاسات وآثار مباشرة على البيت العالمي المشترك والعائلة الدولية، بل هي بداية لانهيار شامل في المنظومة الأخلاقية الإنسانية، لا تقاس فحسب بحجم ما ستحققه من مكاسب عاجلة للمنتصر، ولا بحجم ما ستحسمه المعركة من خلاف، ولكن بحجم ما ستخلفه من ضحايا وآلام وآثام، وبحجم ما ستستديمه من كراهية وعنف وضغائن وأحقاد دفينة، وتوترات كامنة تحت الجمر والرماد، ترهن بدورها مستقبل الإنسانية بحروب قادمة ولانهائية وبهزائم لقيمها المشتركة.
فاستمرار الحرب في أوكرانيا بكل تداعياتها اليومية على المجتمع الدولي وعلى نسيجه الاقتصادي وعلى المعاملات الدولية وعلى الانتظارات المجهضة للبشرية من نظامها العالمي الجديد ومن الشرعية الدولية ومواثيقها وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، معناه مزيد من زعزعة الثقة في القيم الكونية الفضلى والمثلى التي بذلت الإنسانية عبر قرون وبواسطة حكمائها وأنبيائها وصلحائها ومفكريها الغالي والنفيس في سبيل إرسائها والتمسك بها، وبناء الآليات التشريعية والمؤسساتية لتفعيلها وحمايتها وزجر مخالفيها وفرض الامتثال للاتفاقيات والمعاهدات والالتزامات والتعاقدات التي تؤطرها. فمن شأن المبادرة بالحرب فتح الأبواب على مصاريعها للعدوان واكتساح الكراهية والعنف مساحات شاسعة من الأرض ومن الأنفس التي سيخليها السلام، ويتراجع صوت الحكمة فيها، وتخرس ألسنة الحق والعدل، وتنطفئ أنوار العقول، وسيكون قانون الغاب والقوة والغلبة والجبروت وحده المدوي العاوي وسط الأنقاض والخرابات.
نحتاج إلى كل أنبيائنا وحكمائنا وعقلائنا في العالم ليذكروا حضارة قرننا من جديد بأن الانتصار على نزعات الشر والعدوان وإهلاك الحرث والنسل التي تسكننا، هو وحده الانتصار الحقيقي في عالم يستحق أن نعيش فيه بأمان وطمأنينة وسلام وأن نعمره بالخير، فالانتصار في معارك البناء والسلام والتنمية والتعاون هو الذي يستحق أن نسميه نصرا حقيقيا ومؤزرا، ونجاحا موفقا، وغير ذلك من استعراض القوة على الأبرياء والمستضعفين والانتشاء بهزائم الآخرين ما هو إلا مقدمة لهزيمة مدوية للقيم الإنسانية الفضلى في التعايش، ومقدمة لعجز مزمن عن المبادرة بما يفيد تقويتها وترسيخها ومنع تكرار المآسي القديمة للحروب ولكل أشكال الاستعمار والاستعلاء والتطاول والغزو وقهر الشعوب التي تعاني إلى غاية اليوم من مخلفاتها السيئة.
إن كل إطالة لأمد الحرب وجرائمها هو تمديد لخسارة المكتسبات الإنسانية، ولخسارة منظومتنا الأخلاقية الكونية لكل مصداقيتها وثقة الناس في التحالفات وأحلاف السلام المقررة بناء على المواثيق الدولية وعلى آلياتها ومؤسساتها ذات الصلة بتثبيت الأمن وحل النزاعات وفرض التهدئة والامتثال للقانون الدولي، واحترام الوحدة الترابية للدول وحقها في حرياتها وسياداتها واختياراتها الوطنية الديموقراطية والتنموية.
وفي هذا السياق من دعم الثقة في الشرعية الدولية والجنوح للسلم والحوار والتفاوض بشأن النزاعات الإقليمية الحدودية والترابية، يندرج الموقف المغربي الثابت والواضح والمنسجم مع الشرعية الدولية، في إثارته لنقطتين مبدئيتين مهمتين بشأن الأزمة الأوكرانية: الاحترام المطلق والتام للسيادة الوطنية للدول وعدم انتهاك وحدتها الترابية، وتغليب منطق الحوار والتفاوض والمبادرات السلمية والديبلوماسية في حل النزاعات وتسوية الخلافات، إيمانا منه أن ما سيتم التوصل إليه من حلول نهائية وواقعية وذات مصداقية هو أكبر بكثير وأفضل وأبقى وأنفع مما سينتزع بالحرب والقوة القاهرة مهما كانت صولات الحق فيها على الباطل.
يمكننا أن نكون أبطالا للإنسانية جمعاء، لكن قطعا لن تكون هذه البطولة على جماجم الأبرياء وفوق برك الدماء وأنقاض الخراب وقطع الطرقات، بل في حرث الأرض وإعمارها وإنبات الزرع وإطعام الناس وصنع الأدوية، ومد القنوات والطرقات وفتح الحدود والجسور، ذلك هو رهان العالم المقبل المنتصر على نفسه وعلى نزعات الشر الكامنة فيه، والقادر فعلا على أن يكون قوة ضاربة في الأرض بالقدر الذي تضرب به جذوره في السلام والتعاون والبناء وإتقان لغة الحوار والتفاوض، وتقريب وجهات النظر، ورعاية المصالح المشتركة، وتأهيل الأجيال الجديدة للانفتاح على مستقبل أكثر عدلا وسلاما على هذه الأرض التي تسعنا جميعا بكل اختلافاتنا التي تُغْني ولا تُفقر، وتُحيي ولا تُميت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق