مشاهد مأساوية لن تتكرر
بقلم: الأستاذ عبدالله الفردوس
كانت جهة طنجة تطوان الحسيمة يوم السبت الماضي، على موعد مع أحد أكبر الإنجازات التنموية في هذه الجهة التي تضررت فئات اجتماعية فيها من تداعيات القرار السيادي المغربي القاضي بإغلاق معبري مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، إذ بافتتاح منطقة الأنشطة الاقتصادية بمدينة الفنيدق، بعد إدماج سابق لمئات النساء العاملات في قطاعات إنتاجية، يكون مغرب اليوم قد قطع بصفة نهائية مع مشاهد مؤلمة ومؤسفة ومخجلة للتهريب المعيشي الذي كان من أهم مصادر العيش والدخل للأسر في المنطقة، مع ما كان يصحب ذلك من إساءات للوطن وللمواطنين، ومن خسارات للاقتصاد الوطني، ومن تغول للابتزاز والغطرسة الاستعمارية لسلطات الثغرين المحتلين، التي تستفيد من مداخيل مالية هائلة جراء تصريف بضائعها المهربة إلى المغرب، في ظروف لاإنسانية ومهينة لكرامة نساء عفيفات شريفات ألجأتهن الحاجة والفاقة للتحول إلى حمالات لأطنان من السلع فوق ظهورهن، عبر ممرات ضيقة ومنحدرات خطيرة ووعرة، ولم تفتأ وسائل الإعلام الاستعمارية تحولهن إلى مادة للسخرية والتندر وتشويه صورة البلد بأكمله- بينما يستفيد معمرو الثغرين وحدهم من هذا الوضع اقتصاديا وسياسيا- ثم نعتهن بـ”النساء البغلات” (Les femmes- mulets) ، ونقل صور حاطة بكرامتهن في المعابر والبوابات مع الثغرين المحتلين، من ازدحام وحشر في زوايا ضيقة، وتدافع واشتباك مع الحرس المحتل وضرب بالعصي وتعذيب نفسي وجسدي، ومطاردة، وانزلاق في منحدرات، وتبعثر للسلع المهربة المحمولة، وإزهاق لأرواح نساء وشباب من ممتهني هذا التهريب المعيشي، حيث خلال سنة 2019 التي سبقت قرار إغلاق المعبرين، ستة أفراد على البوابتين في ظروف خانقة وصادمة للمشاعر الوطنية والإنسانية.
وكان المغرب وقتها يستكمل حلقات مخططات النهوض المتكامل بأقاليم الجهة على جميع الأصعدة التنموية، ويوفر البنى التحتية والمشاريع المهيكلة، في أفق الامتصاص النهائي لإشكالات اقتصادية واجتماعية قديمة وعميقة ومعقدة في المناطق الشمالية للبلاد، وخلق فرص جديدة ومتجددة للشغل ولمصادر در الدخل القار والمستدام، ومنع تدهور الأحوال المعيشية لقطاع واسع من الساكنة المحلية، قبل أن يتفاجأ الجميع بتقرير صادم للجنة البرلمانية (لجنة الخارجية والدفاع الوطني) شهر دجنبر 2019، رسم صورة قاتمة عن تدهور الأوضاع المعيشية في المنطقة، وعن الظروف المأساوية التي تعيشها الساكنة المرهونة بمداخيل التهريب، تلتها عمليات إغلاق معبري التهريب، ثم عمليات التصدي للوضعية الوبائية بالإجراءات الاحترازية المقررة، الأمر الذي فاقم أوضاع المتضررين من هذه الإجراءات، وأثار قلاقل في المنطقة في غياب بدائل جاهزة لتعويض الضرر وإدماج المتضررين.
غير أن تسريع إنجاز المشاريع التي تم تدشينها في وقت قياسي، فضلا عن تطويق الأزمة بعدد من المبادرات وعلى رأسها نقل 700 حمالة تهريب معيشي للعمل في مصانع النسيج ضمن البرنامج المتكامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بإقليم تطوان، وكذا توظيف عدد من الشباب، ساهم في إنعاش الثقة في إيجاد بدائل وعدم ترك المنطقة رهينة بانتظار فتح المعابر لعودة الأنشطة التهريبية مرة أخرى، أو بالخضوع للضغط الإسباني أو الابتزاز الاستعماري الذي كان يأمل في تكريس الحالة الشاذة للمعبرين، وتعميق النزيف في خزينة الدولة المغربية وفي جيوب المواطنين، مقابل ضخ ملايير من الأوروهات في خزينة السلطات الإدارية المحتلة للمدينتين السليبتين، المستفيدة من أزمة التنمية في أقاليمنا الشمالية.
بافتتاح منطقة الأنشطة الاقتصادية والتجارية بمدينة الفنيدق، تكون حلقة أخرى من تطويق أزمة إغلاق معبري التهريب المعيشي، قد بلغت مرحلة متقدمة، في انتظار الشطر الثاني من هذا المشروع الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي سيعوض بقوة أنشطة التهريب، وسيضع حدا نهائيا لتجارة غير مشروعة أساءت لصورة بلادنا ولكرامة مواطنينا، ودرت على خصومنا لعقود من الزمن من الأموال والمنافع ما أوجعونا به، وغذوا به نزعاتهم العنصرية والاستعلائية.
جميع تصريحات المواطنين والتجار المتضررين سابقا والمستفيدين حاليا والمستثمرين والشركاء الاقتصاديين في المنطقة، عبرت عن ارتياحها لإنجاز هذا المشروع الكبير في ظروف ناجحة، وبتمويلات هائلة، وبأهداف واضحة ومستقبلية رائدة عند اكتمال الأشطر الأخرى المتبقية من هذا المشروع، لخلق فرص الشغل والتقليص من البطالة والعطالة، وامتصاص الاحتقانات الاجتماعية في المنطقة، وصرف النظر نهائيا عن كابوس العودة إلى صور البؤس والحرمان، ومشاهد الظهور المقوسة والمحملة بأكياس الخردة والبضائع المنقولة من الثغرين السليبين إلى مدننا وأقاليمنا.
وبالإضافة إلى هذا المشروع وإلى المبادرات التنموية القوية التي تشهدها المناطق الشمالية للمغرب، والتي تحظى بعناية كبرى ورعاية متواصلة من أعلى سلطة في البلاد، فإن استثمار المؤهلات السياحية لهذه المناطق فضلا عن توسيعاتها العمرانية والاقتصادية التي تستقطب إليها استثمارات معتبرة من مختلف جهات البلاد ومن خارجها، من شأنها أن تغير ملامح النشاطات المعيشية في المنطقة في اتجاه الاندماج في النسيج الاقتصادي الوطني، والتناغم مع النموذج التنموي الجديد، ومع مغرب اليوم والمستقبل الذي لم يعد فيه مكان لتلك الصور البئيسة والمشينة القديمة التي التقطت ذات يوم عن نساء حمالات مقوسات الظهور يتساقطن تحت الأرجل، وعن شباب تلهب ظهوره بالسياط، من أجل انتزاع لقمة عيش ممرغة في تراب معبر الموت وبوابة الوهم كانا شاهدين على تجاوزات وانتهاكات حقوقية واجتماعية، وابتزازات سياسية واقتصادية.
مع هذه الحلول والبدائل الجذرية التي يرسيها النموذج التنموي المغربي الصاعد في تدبير النهضة، تتحول الأزمات السابقة إلى فرصة للتخطيط المستقبلي، والإقلاع بجميع الإمكانات والموارد المتوفرة، وخلق الثروات الكافية، لتحقيق انتقال تنموي رائد في جهاتنا المتضررة، وتحقيق مقولة أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس. وبهذا ينتهي الكلام مع الحالمين بعودة التجارة التهريبية البئيسة والمقيتة عبر معبري الثغرين المحتلين، والحالمين باستمرار وضع الابتزاز والاستغلال بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية.