قضايا وآراء

تأمين الانتقال التنموي

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس

تتسارع عقارب الساعة في العديد من دول العالم للاستئناف التدريجي والحذر للحياة على هذا الكوكب بعد فترة من الانكماش وإغلاق الحدود وتشديد الإجراءات الاحترازية التي فرضتها الوضعية الوبائية الكاسحة، ولا يتعلق الأمر فحسب باستئناف الحياة والعادات والسلوكات ما قبل “كورونا”، بل بإحداث تغييرات جذرية وانعطافات حاسمة في البنيات الاجتماعية والثقافية والمنظومات السياسية والاقتصادية والصحية، التي خططت لها الدول والشعوب بشكل استباقي بمبادرات، كل من موقعه وإمكاناته وقدراته الإبداعية والاقتراحية، حيث استُغلت الفترة الوبائية لإعادة ترتيب الأولويات وللاشتغال على مراجعات تُؤَمِّن انتقالا تنمويا جديدا ومفصليا وحاسما لما سيكون بعده من نهضة باهرة أو سقطة مدوية.
ستبرز في الساحة دول تمكنت، بفضل سياساتها التدبيرية العمومية الداخلية والخارجية الناجعة وتدخلاتها الاستباقية الموفقة في تأمين مستقبل أبنائها ومصالحها ومصالح شركائها، من الحفاظ على ترتيبها الدولي المتقدم في تحصين اقتصادها ومواصلة تطورها، ودول ستتمكن من تغيير ترتيبها الدولي في سلم التقدم والنهضة بتحسين أرقام أدائها ورفع إنتاجها وإبراز كفاءاتها، واستثمار مستجدات ما بعد “كورونا” لاستقطاب رؤوس الأموال والمشاريع والمبادرات إليها، ودول أخرى ستبقى حيث هي من التخبط والفشل في استيعاب التحديات الدولية الجديدة ورهانات ما بعد “كورونا” التي تهيأت لها شعوب وتأهلت لها دول، فيما بقيت شعوب ودول خارج التاريخ بل ضد التاريخ بتفويتها فرص الإصلاح والمراجعة والتغيير، وبرهنها لمجتمعاتها بسياسات بالية ومقاربات اقتصادية وتنموية معطوبة ومتقادمة.
وبشهادة جميع المراقبين الدوليين، وكل الأرقام والإحصاءات الموثوقة، فإن بلادنا تشهد صعودا غير مسبوق في ترتيب مكانتها بين الدول الصاعدة في سلم الرقي الاقتصادي والتنموي، والاستقرار الاجتماعي والسياسي والمؤسساتي، والأمن الغذائي والصحي، والقوة والمنعة الداخلية. إذ بفضل التدخلات الاستباقية لجلالة الملك في مواجهة التهديد الوبائي للمنظومات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للمغرب، تمكنت المملكة من تعبئة كل إمكاناتها ومواردها ومبادراتها لتأمين اللقاحات والحصول على الجرعات الكافية منها لتطعيم مواطنيها وتحقيق المناعة الجماعية، بالوصول إلى تطعيم نسبة كبيرة من الساكنة، مواطنين وأجانب وضيوفا، في وقت عرفت فيه عدد من دول العالم بما فيها الدول المتقدمة والغنية تراجعا وتأخرا في تغطية حاجياتها من عُدة مواجهة الوباء، لقاحا كانت أو كمامات أو أكسجين أو أدوية، أو أسِرَّة أو اختبارات التأكد من الإصابة بالفيروس… وانخرطت المملكة في تجارب سريرية مبكرة مع شركائها الدوليين، فكسبت ثقتهم بعد تأكيد فعالية اللقاحات المعتمدة وسلامة ظروف التخزين والنقل المتوفرة، وعبأت أطرا صحية وطبية وأمنية لمواكبة أكبر حملة تلقيح عرفتها البلاد، ولم تقف الجهود الصحية عند هذا الإطار الوقائي والعلاجي، بل تعدته إلى التفكير في ما كشفته الوضعية الوبائية من نقص في البحث العلمي وفي إنتاج اللقاحات الضرورية لهذا المستجد الوبائي، ومواجهة مخاطر استنزاف مالية الدولة، ورهن البلاد بالخصاص والحاجة وبالدول الممسكة بناصية العلم والقوة الإنتاجية، فتقرر، بالموازاة مع استيراد اللقاحات، اتخاذ خطوات كبرى لمشاريع هيكلية هدفها الأساس تحقيق السيادة الصحية للبلاد، بإنتاج هذه اللقاحات وتعبئتها، وقد انتهت هذه الخطوات التي تواصلت مساراتها خلال السنة الثانية للوباء، بما لا يتسع هذا الحديث المختصر لبسط عملياتها وإجراءاتها ومراحلها المتسارعة والمكثفة، إلى تدشين جلالة الملك في جهة الدار البيضاء- سطات، لأكبر منصة في القارة الإفريقية لإنتاج وتصنيع وتعبئة وتغليف اللقاحات، والتي ستمكن بلادنا على المديين القريب والمتوسط من تلبية احتياجاتها الصحية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتأمين اللقاحات والأدوية للقارة الإفريقية، بالنظر إلى الإمكانات الإنتاجية الكبرى للوحدات الصناعية لهذه المنصة، وبالنظر أيضا إلى حجم الاستثمارات والشراكات الدولية التي وظفت فيها، والتي ستسعى، بالإضافة إلى الإنتاج والتصنيع الدوائي واللقاحي، إلى تطوير البحث البيوـ صيدلي في المغرب، بما يجعله قاطرة للقارة الإفريقية ونموذجا رائدا في المجال الصيدلاني.
لم يكن هذا المشروع الكبير والحيوي تدخلا معزولا واستثنائيا في سياق ظرفي، إذ هو حلقة مندرجة في إطار حزمة من المشاريع التنموية الكبرى المتكاملة والمندمجة التي انطلق إرساؤها مع المراجعات التي حظي بها النموذج التنموي المغربي، والذي كان أوشك على طرح نسخته الجديدة مع اندلاع الوباء وتفشيه في العالم، فسرعت الوضعية الوبائية في مزيد توجيهه وتدقيقه وملاءمته وتحيينه، وانطلقت معه إرساءات أخرى لمشاريع كبرى من مد الشبكات الطرقية، وإنشاء الموانئ والمطارات والمركبات الصناعية والتجارية الكبرى، وإخراج قوانين وتعميم للتغطية الصحية والاجتماعية، ومواجهة الإرهاب والتطرف والأطماع الخارجية والهجمة الاستعمارية المتربصة بالوحدة الترابية للبلاد بمزيد من اليقظة والتعبئة والصمود، وتعزيز العلاقات مع الشركاء الدوليين والقاريين وتنويعها، والتعاون مع المنظمات والهيئات الدولية للسلام… ومن شأن المصداقية والموثوقية والجدية والحكمة والانحياز للعدل والحريات والحقوق والمشروعية التي تحف بها التزامات المغرب داخليا وخارجيا أن تزيد من رصيد دعمه في توجهاته السلمية والتنموية والديمقراطية، باعتباره عامل استقرار وانفتاح وقوة سلام في منطقته ومحيطه. إذ لم يمنع التدبير الداخلي الطارئ والضاغط للوضعية الوبائية ببلادنا، ولا تدبير الندرة والخصاص من الإسهام إلى جانب الدول المانحة في تقديم المساعدات والإسعافات لعدد من البلدان الشقيقة والصديقة في القارتين الإفريقية والآسيوية، وإبداء قدر كبير من التضامن الفعلي مع الشعوب في مواجهة الظروف المزرية للوباء.
نأمل أن تكون الحكومة القائمة التي تقود مرحلة ما بعد الوباء، في مستوى الرهانات الكبرى لبلادنا لمواصلة استكمال إرساء حلقات النموذج التنموي الجديد الذي سيغير في سرعته الثانية وجه المغرب الصاعد إلى الأفضل والأحسن، والذي تلوح بشائره ووعوده بالقوة التي يلج بها المغرب مرحلة الانفراج الوبائي، وبالمكتسبات القياسية التي حققها في عدد من الميادين، نأمل أيضا أن تحافظ عليها الحكومة بانضباطها لالتزاماتها، وتذليل الصعوبات ورفع العراقيل، والإسهام من جانبها في تعافي القطاعات المتضررة من ظروف الإغلاق وتمديد حالة الطوارئ الصحية، والإنصات الفعال للمطالب المشروعة للفئات الاجتماعية والمهنية التي تنتظر تدخلا إيجابيا من الفاعل الحكومي لوقف تدهور أوضاعها، ونزع فتائل الاحتقانات والتوترات في صفوفها، وأن تعلم أن قوة المغرب في تأمين انتقاله التنموي السليم والناجح، تكمن في تضامنه وتعبئته، وقدرته الفائقة على رفع التحديات في مسيرته الواثقة الخطوات إلى مستقبل آخر ممكن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق