قضايا وآراء

تجارالحروب ومآسي الشعوب

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس

تعرضت بلادنا في الأسبوع الفارط لهجمة خطابية شرسة وحملة منبرية مسعورة قادتها جماعات من السدنة والكهنة المحسوبة على الدعوة وتجارة الدين وأخرى على فصائل وخلايا دموية متناحرة محسوبة على المتاجرة في القضية الفلسطينية يكفر بعضها بعضا ويخون بعضها بعضا، ولا يصلح نموذجها السيء السمعة والفاقد للموثوقية والمصداقية في تدبير الدين أو الدنيا ليكون مثالا يحتذى في القيادة أو الريادة أو الاتباع، لأنه لم ينجح طيلة عقود من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والعربي في جلب مصلحة أو دفع مضرة، اللهم إلا ما نراه ونعيشه اليوم من مزيد احتلال الأراضي العربية وتمزيق دولها وتقسيم المقسم منها، وإذكاء النزاعات الطائفية والنعرات الجاهلية بين شعوبها، وتكفير وتخوين بعضهم بعضا حتى صارت الساحة العربية والإسلامية يضرب بها المثل في العصر، في التشوه الإنساني وانحطاط المعاملة والقيم، ونشر الأذى ومصدرا للإرهاب والقلاقل والاضطرابات والفتن المتلاحقة والمتناسلة والمتشعبة بتناسل وتشعب الجماعات والطوائف المتناحرة ذاتها والتي يخرج وينسل بعضها من بعض للتنافس على الزعامة فوق الرؤوس والجماجم.

وإذا كان هؤلاء السدنة والكهنة ومدعو الوصاية على القضايا الحيوية للأمة يرفضون أن يتحملوا مسؤولياتهم الأخلاقية والسياسية والمادية والمعنوية عن ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من باب مسدود، وما بلغت إليه أمة المليار مسلم ويزيد من احتراب داخلي، واقتتال طائفي، وقتل على الهوية والانتماء والاعتقاد والرأي والفكر والاختلاف المحمود، فإنهم بالمقابل يواصلون المغامرة والمقامرة بما تبقى لدولهم وشعوبهم من مصداقية دولية، ومن شرعية في أن يكونوا شركاء للمجتمع الدولي في إقامة العدل وحماية الأمن وتوطيد دعائم السلام العادل والدائم والشامل، من خلال تهجمهم على الدول العربية والإسلامية التي اختارت سبل السلام والتعاون مع المجتمع الدولي في إطار ما تقرر من عمليات التفاوض السياسي لإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني، بالإقرار بحقه في إقامة دولته المستقلة وتحرير أرضه وحماية مقدساته.

لم يسلم المغرب وهو يواجه عدوانا مبيتا ومتعدد الأطراف على وحدته الترابية وعلى شعبه ودولته، بل على وجوده، من انخراط جوقة دعاة الفتنة، من الجماعات والسدنة والكهنة المشار إليهم، في مد العدوان الاستعماري والإرهابي على أراضيه بالدعم الخطابي والإيديولوجي والشعاراتي، متناسين في نفاقهم وتجارتهم البائرة، أن أرض المغرب لا تقل عن أرض فلسطين قداسة وانتماء إلى الأمة، وتستحق منهم أن يدافعوا عنها دفاعهم عن جميع أراضي الأمة، أليس المغرب كما يقولون بأفواههم رباطا وجناحا غربيا للأمة؟ فلم سكتوا كل هذا العام وكل الأعوام السابقة عن أن يقولوا كلمة حق لنصرة المغرب في ساحات المعركة والصمود وفي المحافل الدولية وفي وسائل الإعلام؟ أو على الأقل في ردع الذين يناهضون وحدته الترابية ويُعملون سيوف التقطيع والتمزيق في هذه الوحدة، ألستم دعاة الوحدة؟ ألا يستحق منكم المغرب التفاتة أو كلمة وفاء وصدق وعدل، على ما بذله ويبذله للأمة، التي تتواصون عليها وتتآمرون، من أنفس وأموال ونصيحة ودعم ودفاع حتى كادت مصالحه العليا ووجوده يذهبان ضحية تحالفاتكم السرية مع أعدائه ووضع أيديكم في أيدي الغزاة من الورثة الجدد للانتقامات الصليبية والنازية والشيوعية القديمة، التي تحرك اليوم عدوانا حاسما وواسعا على المغرب لإخضاعه وابتزازه وصرفه عن استكمال كل أشكال وصور سيادته على ترابه ومياهه وثرواته، واستقلال قراره، وتكريس مركزية أدواره في محيطه الإفريقي كعامل تحرير وتنمية ورخاء واستقرار وازدهار.

إن فتاوى التكفير وخطابات التخوين الموجهة ضد المغرب في ظرفية عسيرة عز فيها الصديق الوفي والأخ الشقيق والحليف الشريك والموثوق، إن دلت على شيء فإنما تدل على القطع بأن الذين أصدروها لا علم لهم أو لا يريدون العلم أن المغرب، هذه الأرض المباركة والدولة الشريفة والنبيلة والشعب الكريم المضياف، غير مستعد للتضحية بوجوده ومصيره ومصالحه المهددة من أجل إرضاء أطماع واختيارات التكفيريين والقومجيين الذين لم يشعروا ولو للحظة أو يوم بحجم معاناتنا من العدوان المتواصل والمتصاعد على بلدنا، وصل إلى حد التهديد المباشر بالحرب الضاربة والكاسحة علينا، والتي يتولى تنفيذها نظام بائس وبائد في دولة الجزائر الشقيقة، التي ورد ذكرها في بلاغ لإحدى الفصائل الفلسطينية المتناحرة بالمديح والإطراء وادعاء استهدافها بالاتفاقيات المغربية الإسرائيلية التي لم يقرأوا حرفا منها، ولا اطلعوا على بنودها، ولا عرفوا غاياتها ومقاصدها السلمية، ونأيها عن استهداف أي بلد عربي. 

ولإنهاء هذا الموضوع بدون مزيد من نكئ الجراحات والخيانات والمؤامرات التي تتعرض لها بلادنا وتفرض على دولتنا وجيشنا وشعبنا تعبئة كل الجهود والمبادرات والخطط والمناورات للرد عليها وتحجيمها وردعها، بما في ذلك تغيير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة، ورفع كل الحواجز والموانع في البحث عن أحلاف وتحالفات لصالح قضية وحدتنا الترابية ومصالحنا الحيوية، فإنه ليس مَن يوجهون دروس الوعظ والإرشاد ويلوحون بالشعارات البراقة والمزيفة هم مَن سيحفظ أمن شعبنا ويحقن دمه ويجنب بلادنا الخراب الذي يهددها به صباحا ومساء عدونا من أشقائنا ومن ورثة الاستعمار وعملائه في المنطقة، وليسوا هم من سيعلموننا كيف نُخلص للقضية الفلسطينية.

ولهؤلاء السدنة والكهنة والوعاظ نقول: إنا كنا سنقبل كلامكم لو كان مجرد عتاب أخ لأخيه، أو نصيحة وتخوف، أو دعوة خالصة لحقن دماء الإخوة وتجنيب المنطقة مزيدا من الحروب والدمار، أما وأنكم اخترتم المغرب لنقدكم المتحامل والانتقائي، ولهجومكم الكريه والمنحط، من دون أية إشارة إلى المطبعين الكبار وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية نفسها، والمتعاملين الكبار مع إسرائيل، وعلى رأسهم النظام التركي الذي تصدرون له صكوك الغفران والصمت المطبق على التعاون الأمني والعسكري التركي الإسرائيلي، ناهيك عن الصمت على دول أخرى تقبضون منها الأموال والإكراميات وتأويكم وتضمن لأبنائكم حياة رغدة ومستقبلا زاهرا في كنف السلام مع إسرائيل، بينما تبعثون أبناء الأمة إلى المذابح والجبهات المشتعلة، وتغررون بهم في أحقر صور الاستغلال والاستيلاب والتخدير، ومن دون أية إشارة كذلك إلى الحرب على المغرب، ومن دون أن يخفق لكم قلب من هول ما تعرض له من قطع العلاقات وإغلاق الأجواء والحصار وإعلان الحرب والتحالف مع أعدائه وتمني دماره، وخذلانه من القريب قبل البعيد، فإن مصداقية خطاباتكم إلى الأمة وتمسحكم بوحدتها وإسلامها وعروبتها، بتحذيرها من المغرب وادعاء استهدافه للصمود الجزائري وللأمن القومي العربي، بالاتفاقيات المبرمة مع إسرائيل، لا يعدو أن يكون مجرد نفاق وشقاق هو بعينه استهداف لمصالح المغرب، وانضمام إلى الحلف المعادي له، وانخراط في الحرب المعلنة عليه، وتشويه لسمعته أمام الرأي العام العربي والإسلامي بمواصلة استغلال مأساة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة حطبا لجهالتكم ونزواتكم ومصالحكم الطائفية والشخصية.

إن الشعب الفلسطيني الأبي يعلم من يقف معه في محنته بالنفس والمال والدعم والمبادرة والتدخل والإسعاف، بغير مَنّ ولا أذى ولا مصلحة، ولا جزاء ولا شكور، ويعلم من معه بالتهور والخطابة والشعارات والابتزاز والمقايضة والمتاجرة.

فإلى هؤلاء المتلبسين بإثم التشويه والتزييف للوعي العربي والإسلامي، من الجماعات والعصابات والميليشيات التي خربت بلدانها وفككت أوطانها وقعدت على جماجم شعوبها لتفتي في الحلال والحرام والولاء والبراء، نقول إن خروجكم المنحط هذا للمساس بثوابت بلادنا ومقدساتها واختياراتها وسيادتها بفتاوى التحريم والتخوين والافتراء على الدين، أو بالبلاغات التهديدية، لن تزيد شعبنا إلا تمسكا بحرياته وحقوقه ودفاعه عن شرعية وحدته الترابية بكل الطرق والوسائل والأساليب المتاحة التي يراها مناسبة ورادعة، وموصلة إلى ضمان الأمن والاستقرار والسلام في أرضه وربوع وطنه، وإلى دحر المعتدين، والانتصار قبل كل ذلك على خطابات الشر والكراهية والعنف والتطرف والإرهاب والترهيب التي جرّت على الأمة ويلات ومفاسد، ولم تجن منها إلا ما تشهده ساحاتها من دماء وفوضى، وتجارة في كل المبادئ والقيم بما فيها التجارة الحقيرة في الدين وفي مآسي الشعوب ومستقبل أجيالها الناشئة والصاعدة. ولو اتعظ هؤلاء الوعاظ ودعاة الشر بما تسببوا فيه من قتل شعوبهم وتشريد خيرة أهاليهم وتخريب ديارهم وتفكيك دولهم وتقسيمها واستعمارها، لكان خيرا لهم من أن يعظوا المغاربة الموحدين، ويتوعدوا المغرب الموحد ويُفتون في سيادته ومصالحه التي يعرفها أكثر منهم. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق