ثقافة

الفنان عبد المجيد بنكيران ذاكرة فنية مغربية طالها النسيان والتهميش

عليا بوغدير

تنتهي قصص الفنانين الرواد الذين أفنوا زهرة حياتهم لأجل الفن وإمتاع الجمهور من خلال تقديم أعمال فنية أثرت الخزانة المغربية الغنائية والموسيقية، لكنهم بعد تقدمهم في السن يجدون أنفسهم بعد سنوات من الإبداع والعطاء الفني في دائرة التهميش والإقصاء والحاجة، يعانون في صمت جراء ظروف عيشهم المزرية بعضهم اختار الصمت والانزواء، والبعض الآخر اضطر إلى الاستغاثة بوسائل الإعلام يستجدي من خلالها الدولة والجهات الوصية على القطاع من أجل سداد إيجار بيوتهم أو تكاليف علاجهم في ظل عدم استفادتهم بأحد صناديق الحماية الاجتماعية، تنضاف إلى هذه القصص قصة الموسيقي والفنان عبد المجيد بنكيران ذاكرة الفن المغربي الأصيل احتكاكه بعمالقة الفن المغربي ومعاصرته لرواد الأغنية المغربية جعلا منه مرجعا، لكن هاته الذاكرة الغنية طالها النسيان والتهميش، معاناته في صمت اضطرته للاشتغال كبائع متجول، في غياب فرص عمل حقيقية في مجاله الموسيقي الذي لم يجن منه سوى ألبومات ومجموعة من الصور والأسطوانات القديمة التي لا زال يحتفظ بها لأنها هي إرث وحصيلة مسار فني طويل، وكل ما يربطه بماضيه وبالزمن الجميل. وخلاصة حديثنا مع الموسيقي المغربي عبد المجيد بنكيران، نقول إن الموت ليس وحده من يفني وينهي حياة المبدعين، فالتهميش والإهمال والحاجة أشد شراسة.
شغفه بالفن والموسيقى الطربية كان سبب ولوجه معهد الموسيقى بالدار البيضاء سنة 1969، من أجل صقل موهبته وتعلمه أصول الموسيقى وأبجدياتها عايش رواد الأغنية المغربية والبعض من عمالقة الزمن الجميل بالمشرق، لم تشفع له مسيرة أزيد من أربعة عقود من العطاء الفني والموسيقي في الظفر بحياة كريمة، ولم ينصفه الفن بقدر إسهاماته في المجال ليجد نفسه بائعا للملابس من أجل تأمين حاجياته الضرورية. فهوعضو منخرط بالنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة منذ 1999 كان يترأسها آنذاك الفنان عبد الوهاب الدكالي، ولديه بطاقة فنان التي لم تخوله أدنى شرط من شروط العيش الكريم… إنه الموسيقي عبد المجيد بنكيران.
ذكريات وكواليس فنية عديدة رواها بنكيران لموقع “الأمة24” خلال حديث مطول تذكر من خلاله لحظات قضاها رفقة رواد الفن والطرب المغربي واستحضر تجربته الموسيقية الطويلة التي لم يبق منها اليوم سوى صور توثق لذكريات جميلة حملها معه، ولم يتوان لحظة في النظر إليها تقليبها مرات عديدة والحسرة مرسومة على محياه.
استرسل في سرد حكاياته وتجاربه عبر محطات موسيقية تاريخية متعددة، وعن أصدقائه الفنانين والمطربين من الرواد، وعن الفن الجميل الذي ولى بروائعه الموسيقية. في البداية تحدث بنكيران بإسهاب عن مرحلة دراسته بالمعهد بنبرة كلها حنين واشتياق للعودة إلى الوراء أكثر من حماسة العيش والاستمتاع بالحاضر، حيث تقاسم حلم الشهرة والنجاح خلال المدة التي قضاها بالمعهد مع عدد من الأسماء التي سيبزغ نجمها فيما بعد بسماء الأغنية المغربية كمحمود الإدريسي وإبراهيم العلمي، محمد الحياني والحاج يونس، وإدريس النياتي، وبوجمعة حكور (بوجميع ناس الغيوان). إلى جانب أسماء أخرى في مجال المسرح مثل أحمد الصعري وصلاح الدين بنموسى وغيرهم.
قال بنكيران بافتخار إنه من ضمن الأوائل الذين التحقوا آنذاك بالمعهد الموسيقي بالدار البيضاء بعد افتتاحه سنة 1967 عاصر عدد من المدراء الذين تولوا تسيير هذه المؤسسة، مشيرا إلى أنه درس “الصولفيج” الذي تعلمه على يد السيد الحجاوي والفرنسي ماريطون، كما أتقن العزف على الكونترباس والدف “البندير”.
وأضاف الموسيقي بنكيران أنه بعد انتهاء مدة دراسته بالمعهد التحق بجوق الدار البيضاء برئاسة المعطي البيضاوي، وابتداء من سنة 1973 بدأ مشواره الفني ما بين العزف والغناء عزف مع جوق برنامج أضواء المدينة، وبرنامج مواهب لعبد النبي الجراري الذي كانت مهمته البحث عن الأصوات الجميلة لتقديمها للجمهور ومواكبتها فنيا. وفي هذا السياق، أكد بنكيران أنه كان شاهدا على بدايات المطربة المغربية سميرة سعيد عندما رافقها والدها للمشاركة في برنامج “مواهب” وعمرها آنذاك لا يتعدى التسع سنوات، حيث كان عبد المجيد بنكيران واحدا من أعضاء الفرقة التي رافقت الطفلة الموهوبة آنذاك بالعزف.
ذاكرة هذا الموسيقي موسوعة تختزن مجموعة من الأسرار والذكريات وحكايات العديد من نجوم الفن والطرب، خاصة المنتمين إلى جيل الرواد. يحكي عبد المجيد بنكيرن أنه تنقل بين عدد من الفرق، واحتك بنخبة كبيرة من الرواد الذين ساهموا في نشأة الأغنية المغربية منذ سبعينيات القرن الماضي مثل محمد الحياني، عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط، سعاد محمد، بهيجة إدريس، نعيمة سميح، وأحمد الغرباوي، محمد المزكلدي، وعمر الطنطاوي وغيرهم . وربطته معهم صداقات قوية يتذكر عبد المجيد بنكيران ذكرياته مع المرحوم محمد الحياني، خاصة حينما دعاه إلى المشاركة في فيلم “دموع الندم” مع فرقته، صار بعدها من الأصدقاء الذين يحرص الحياني على مجالستهم. وحسب بنكيران كان المرحوم الحياني حسن المعشر وإنسانا جد متواضع بالرغم من المكانة التي كان عليها آنذاك والشهرة التي بلغها، ولم يفت الموسيقي المغربي أن يشير في هذه الجلسة إلى أن المرحوم محمود الإدريسي هو من كان سيغني أغنية “راحلة” التي لحنها له عبد السلام عامر، لكنه تراجع وأسندها للراحل محمد الحياني. ومع ذلك سجلها بصوته لفائدة أسطوانات “أطليسيفون” التي كان يملكها آنذاك الراحل عبد الرحمان العلمي.
وبحب كبير واحترام وتقدير تابع حديثه عن المرحوم محمود الإدريسيـ، الذي كان يعتبره من أصدقائه المقربين، وقال بنكيران إنه كان مساندا له في مشواره الفني ووقف إلى جانبه في محنة مرضية مر منها وكان يساعده ماديا، الأمر الذي لن ينساه مدى حياته، نفس الشيء قاله عن المرحوم المزكلدي الذي ظل بنكيران يزوره في بيته أثناء مرضه ويسأل عنه ويتفقد أحواله إلى أن رحل إلى دار البقاء. وبخصوص الرواد الذين ماتزال تجمعه بهم العلاقة ويتواصل معهم، قال الفنان المغربي إنه مازال في اتصال مع الفنانة القديرة نعيمة سميح ونادية أيوب يقوم بزيارتهما في بعض المناسبات.
من الذكريات الأليمة التي بقيت راسخة في ذهن عبد المجيد بنكيران هي لحظة وفاة الفنان والشاعر مصطفى بغداد فوق خشبة المركب الثقافي هوليود بمدينة سلا أثناء الاستعدادات للأمسية الفنية التي تدخل ضمن فعاليات الدورة الـ 16 للمهرجان الوطني للأغنية المغربية، والتي كانت ستكرم آنذاك الفنانة لطيفة رأفت قبل أن يسقط مصطفى بغداد مغشيا عليه أمام الجميع، وكان بنكيران شاهدا على هذه الواقعة وعلى فقدان صديقه، حيث استحضر هذا الحدث بتأثر بالغ.
لم تقتصر صداقات عبد المجيد بنكيران على فنانين المغرب، بل كانت تربطه علاقة صداقة بالعديد من نجوم الطرب في مقدمتهم العندليب الأسمر الراحل عبد الحليم حافظ، الذي مازال يتذكر تفاصيل زياراته للمغرب للمشاركة في احتفالات عيد العرش وعيد الشباب، والتي قدم خلالها عشرات الأغنيات ترجمت علاقة مودة متفردة ربطته بملك المغرب وشعبه من أشهرها “الماء والخضرة” و”ليالي العيد” و”ناداني الحب” و”ليلة قمر” و”أقبل الحسن”..الخ
ويستحضر عبد المجيد بنكيران واقعة عندما رافق أحمد الغرباوي وعبد الحليم حافظ لحي الحبوس من أجل شراء الجلباب والطربوش المغربي للعندليب ليلبسه أثناء تأدية أغنيته الشهيرة عن المغرب “الماء و الخضرة” في إحدى المناسبات الوطنية، كما تذكر واقعة تناول عبد الحليم لوجبة السمك بمدينة الرباط رفقة الغرباوي كانت سببا في نقله على وجه السرعة إلى أمريكا من أجل تلقي العلاج.
وينضاف إلى الراحل عبد الحليم الفنان أحمد عدوية، حيث استرجع عبد المجيد بنكيران تفاصيل اللقاء الأول الذي جمعهما سنة 1982 بمدينة الدارالبيضاء، حيث كان يتدرب على الغناء بآلة العود مع صديقه الصائغ داخل محله، حين فوجئ بدخول نجم الأغنية الشعبية رفقة زوجته لاقتناء المصوغات، وأكد أن عدوية أصر على أن يضمه إلى فرقته لإحياء حفل رأس السنة، بعدما علم بأنه يجيد العزف على الآلات الإيقاعية، لتكون تلك بداية الصداقة التي مازالت مستمرة حتى اليوم، من خلال الاتصالات والرسائل، كما يحرص الفنان عدوية على لقائه كلما زار المغرب، حسب الموسيقي المغربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق