اختبار المصداقية.. وحبوب الهلوسة

بقلم: الأستاذ عبد الله الفردوس
من حسن حظ بلادنا ويُمْن طالعها أن يكون لها في كل نقمة نعمة من تقدم وفتح مبين، ومزيد اكتساح واقتحام للعقبات، فقد طويت لبلادنا في الظرفية الوبائية مسافات كبيرة في مسيرتها التنموية، وكانت هذه الظرفية بحق مناسبة أمامها لاختبار مدى صمودها وقوة بنيانها، ومدى مصداقية خطابها الحضاري والسياسي على محك الواقع، فكان أن شهد العالم بأسره وبإعجاب مفاجآت من المغرب لم تكن في حسبان المشككين والمتهافتين على العربدة في المنطقة، تتناسب هذه المفاجآت مع الموقع الريادي والمحوري الذي ما فتئ المغرب يحتله في التاريخ والجغرافيا والحضارة الإنسانية.
لقد نجح المغرب أمة ودولة وشعبا في كسب رهانات تنموية، وتحقيق نجاحات كبرى في الفترة الوبائية التي خيمت بتداعياتها على العديد من الدول المتقدمة، وأبرزت الهشاشة العميقة في العديد من المنظومات التدبيرية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية الدولية، وأدت إلى انكماشات وانكباحات وانقباضات في مشاريعها التنموية، التي استطاع المغرب بفضل حكامته ومصداقية مبادراته ومكتسباته السابقة أن يسرع وتيرتها، وأن يتأقلم مع الطوارئ والمخاطر، ليس فقط بالحد منها، بل استغلالها لإحداث مراجعات وتحيينات موفقة لنموذجه التنموي، ولرهاناته الديموقراطية.
نجح المغرب بإمكاناته الذاتية وبخبراته في تدبير الأزمات وبالتعبئة اللازمة والتضامن المتجذر في ثقافته وتقاليده، وبالمؤسسات الضامنة لاستقراره وأمنه، وبحكمته وحكامته، ليس فقط في تخطي عقبات الجائحة، بل في استثمارها لتحقيق الإقلاع المنشود، وإصلاح الاختلالات التي انكبت النسخة الثانية والمعدلة للنموذج التنموي الجديد على تصميم إطار شمولي لاستيعابها في الحلول الدينامية المقترحة.
وإذا كان لابد من سرد لما واجه به المغرب تداعيات الجائحة، في فترة قصيرة لا تتعدى العامين، وما استثمره من مبادرات ليس لوقفها فحسب، كما ذكرنا، وإنما لجعلها منعطفا حاسما في مسيرته الوحدوية والتنموية، فإن المجال لا يتسع لكل تفاصيلها، وحسبنا التذكير بما تطرق إليه الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة، من نجاح مبهر في تأمين حاجياته، والحفاظ على مخزونه الاستراتيجي للمواد الأساسية الغذائية والصحية والطاقية وغيرها، بما عزز السيادة الوطنية في كل أبعادها، وهي السيادة التي أبانت الأزمة في العديد من الدول عن تهديدها بالخصاص والندرة والضعف والهشاشة، إلى حد قلب المواقع المتقدمة لهذه الدول إلى مواقع متأخرة في الترتيب العالمي للقوة والصمود في مواجهة تداعيات ومخاطر الجائحة، فيما كان المغرب من بين العشر دول الأوائل على الصعيد العالمي في كسب رهان الحصول على اللقاحات المضادة للفيروس الوبائي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي منها، والتوجه إلى تصنيع اللقاحات، وتطعيم مواطنيه بالنسب المقررة لتحقيق المناعة الجماعية، وهو الآن في مرحلة التطعيم بالحقنة الثالثة الداعمة والمعززة للمناعة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه بلدان من الجوار تلقيح مواطنيها بعصير الوهم وتطعيمهم بحبوب الهلوسة، وتحشرهم في طوابير طويلة للحصول على أبسط الخدمات والمواد من ماء شروب وخبز وحليب وزيت، كان المواطن المغربي في ظل الفترة الوبائية يتمتع، وبوفرة، بما تعرضه الأسواق المفتوحة في أرجاء البلاد، والمزودة بكل المواد الغذائية الأساسية والكمالية منها، فلم نشهد انقطاع ماء ولا كهرباء ولا طحين ولا خضر ولا فواكه، وبأثمنة وأسعار مناسبة وفي المتناول. ناهيك عن الانتصار للخيار الديموقراطي المغربي في التداول على السلطة، بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وبمشاركة واسعة للناخبين الذين احتل أبناء أقاليمنا الصحراوية الجنوبية صدارتهم وتصدرهم لأعلى نسب المشاركة، مقارنة مع نسب مشاركة الناخبين من مختلف أقاليم البلاد، وفضلا عن كل ذلك فقد تم تأهيل العديد من المؤسسات، وتدشين العديد من المشاريع الاستراتيجية الكبرى التي رسمت معالم مغرب ما بعد الجائحة، ومن المنتظر أن تكون نسب التقدم في إنجازها، والبدء في قطف ثمارها في المديين القريب والمتوسط، شاهدا على عظمة أمة، وعلى عراقة في التدبير، ومصداقية في دعم الاستقرار والأمن بكل أبعاده في منطقة مشحونة بالخطابات العدائية والتخريبية والعدمية، وبالعربدة التي تمارسها دولة جوار السوء. ومما يمكن الإشادة به أيضا من نجاحات في احتواء مخاطر الظرفية الوبائية، ما تمت المبادرة إليه من تيسير استقبال مغاربة الخارج بعد التوجيهات الملكية السديدة بخفض تذاكر سفرهم بشكل غير مسبوق، وتكثيف الرحلات وفتح مجالات تنقلهم، مما مكن هذه الجالية من صلة أرحامها، ورفع معدلات تحويلاتها المالية من العملة إلى وطنها.
أما ما تحقق للقضية الوطنية الأولى، وهي قضية وحدتنا الترابية في هذه الفترة الوبائية، فإنه مفخرة لا تضاهيها مفخرة، من اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، وفتح قنصليات وتمثيليات ديبلوماسية بالمدن الكبرى لأقاليمنا الصحراوية، وتطهير معبر الكركرات وتحريره نهائيا وبلا رجعة من عربدة المرتزقة، والقادم خير وسلام.
هنا اختبار مصداقية وُجود الدولة والمؤسسات من عدمها، ومحك أمة وشعب ووطن، بالمقارنة مع عصابات تتخيل نفسها دولة موجودة ومؤسسات قائمة، وتحلم بأن تكون الطفرات العشوائية، والقفزات العابرة، وإدمان حقن التخدير وحبوب الهلوسة بديلا عن إدمان النظر والعمل من أجل السلام والاستقرار المحققين للنجاحات التي حققها المغرب، لا يكون ذلك أبدا لهؤلاء، لأن ديدنهم التخريب والتجميد والقطائع وإثارة الأحقاد، فيما غيرهم مشغول بالبناء والتعمير وإفشاء السلام.
هذه جاذبية المغرب التي يستنكرها عليه المنتفخون بالهواء والهراء والخدر، والتي هي نتيجة اشتغال شاق ومضنٍ على الذات وعلى تعثراتها واختلالاتها، وانتصار على عوامل الشر داخلها، ونتيجة عمل هيأ له المغرب كل أسبابه وظروفه وخططه واستراتيجياته المستشرفة للمستقبل وللأمل في غد أفضل، ويستدعي كل ذلك فخر واعتزاز وثقة مواطنيه، وانتزاع وسام الاستحقاق والتتويج في القريب العاجل ضمن أندية الدول الكبرى التي تحترم معايير الاستحقاق، وضمن الاقتصادات الدولية الصاعدة التي تواجه بعلم وحكمة ونجاعة، أسئلة التنمية والبيئة وإنتاج الثروات وتوزيعها، وتشجيع المبادرات والبحث العلمي وإسعاد الإنسان، وإنعاش الأمل في مقاومة الأوبئة والقضاء على الأمراض، ووقف الحروب والتدمير لمقدرات البشرية وأجيالها الجديدة والقادمة، تلك الأسئلة ذات المصداقية والفائدة التي يدمنها المغرب، هي المغيبة عن عقول دولة مدمنة لحبوب الهلوسة والتزوير والكذب، ومشبعة بأحقاد وكراهيات لا تبعث إلا على الرثاء والشفقة من مصير مؤلم ومؤسف ينتظرها.